الحمد لله.
الاجتماع على طاعة الله عز وجل كحضور مجلس علم ، أو اجتماع على تلاوة كتاب الله ، ونحو ذلك ، من أعظم أنواع البر .
فقد روى مسلم (2699) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) .
قال السندي :
"(حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ طَافُوا بِهِمْ وَأَدَارُوا حَوْلهمْ تَعْظِيمًا لِصَنِيعِهِمْ" انتهى .
وينبغي عند اجتماع المسلمين أن يحرصوا على التقارب وعدم التباعد ، إلا إذا وجد سبب يقتضي خلاف هذا .
وهكذا كانت مجالس الصحابة ، وهم حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا متقاربين ، وإذا جاء أحدهم فوجد فرجة سدها وجلس فيها ؛ فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ . قَالَ : فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ . وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا . فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ ؟ : أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) متفق عليه .
قال النووي :
" فِيهِ اِسْتِحْبَاب جُلُوس الْعَالِم لِأَصْحَابِهِ وَغَيْرهمْ فِي مَوْضِع بَارِز ظَاهِر لِلنَّاسِ , وَالْمَسْجِد أَفْضَل , فَيُذَاكِرهُمْ الْعِلْم وَالْخَيْر . وَفِيهِ جَوَاز حِلَق الْعِلْم وَالذِّكْر فِي الْمَسْجِد , وَاسْتِحْبَاب دُخُولهَا , وَمُجَالَسَة أَهْلهَا , وَكَرَاهَة الِانْصِرَاف عَنْهَا مِنْ غَيْر عُذْر , وَاسْتِحْبَاب الْقُرْب مِنْ كَبِير الْحَلْقَة لِيَسْمَع كَلَامه سَمَاعًا بَيِّنًا , وَيَتَأَدَّب بِأَدَبِهِ . وَأَنَّ قَاصِد الْحَلْقَة إِنْ رَأَى فُرْجَة دَخَلَ فِيهَا , وَإِلَّا جَلَسَ وَرَاءَهُمْ " انتهى .
وروى أبو داود (2628) عن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ) فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ . صححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
وروى مسلم (430) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآنَا حَلَقًا فَقَالَ : (مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ) ؟
قال النووي :
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ) أَيْ : مُتَفَرِّقِينَ جَمَاعَة جَمَاعَة , مَعْنَاهُ النَّهْي عَنْ التَّفَرُّق وَالْأَمْر بِالِاجْتِمَاعِ " انتهى .
"أي : تجمعوا ولا تتفرقوا بأبدانكم ، لا تتفرقوا بظواهركم ؛ فإن الظاهر عنوان الباطن ، والظاهر يؤثر في الباطن صلاحا أو فسادا" انتهى . http://www.alathar.net/esound/index.php?page=tadevi&id=161&coid=2366 - 35k –
وروى أحمد في الزهد (ص181) وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1 / 239) أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما حضره الموت قال : "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر" .
قال ابن عبد البر :
" معنى التزاحم بالركب في مجلس العالم الانضمام والالتصاق ينضم القوم بعضهم إلى بعض على مراتبهم " انتهى .
"التمهيد" (1 / 316) .
قال الشيخ الألباني رحمة الله :
"فمن أدب مجالس العلم التقارب بالأبدان ، حتى يكون ذلك تفاؤلا حسنا وسببا شرعيا لتقارب القلوب ، التي قد يكون بينها شيء من التنافر والاختلاف ، وذلك مما ينهى الشارع الحكيم عنه" انتهى .
-
وقال الشيخ أيضا :
" وجلوس الناس اليوم في حلق العلم متفرقين في المسجد غير متحلقين أيضا من الشيطان ، فينبغي على طلبة العلم التحلق في مجالس العلم " انتهى .
فهذه الأحاديث تدل على أن التقارب في مجالس العلم والذكر من السنة ؛ لتأثير ذلك إيجابا على تقارب القلوب وعدم تنافرها ، ولأن التقارب يجعل الشخص أكثر تأدباً بآداب المجلس ، وتركيزاً فيما يقال ، فلا يشغل نفسه بشيء آخر ، بخلاف التباعد الذي قد يفضي إلى الانشغال عن متابعة الدرس ، أو إمكانية الانصراف بسهولة فيحرم نفسه من الفائدة والخير .
ولكن ذلك ليس شرطا في حصول الفضيلة ، من غشيان الرحمة وتنزل السكينة وحضور الملائكة ، مادام في المجلس لم يخرج منه ، ولم ينشغل بغيره ، إلا أن التقارب أقرب للسنة ، وأتم في حصول الفضيلة ، وكل بحسب همته ونشاطه للمجلس ، وقد تقدم الحديث في الرجل الذي دخل إلى الفرجة التي في المجلس وجلس فيها فقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : (فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ) وفي الآخر الذي جلس خلف الحلقة ، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : (وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ) . فأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الرجلين ، غير أن الأول منهما أفضل .
فإن احتاج بعض الناس إلى التأخر للركون إلى سارية المسجد أو الجدار لضعف أو مرض ونحو ذلك فلا بأس ، مادام منصتا مصغيا .
وفق الله الجميع إلى ما يحب ويرضى .
تعليق