الحمد لله.
الذي يدل عليه النظر الصحيح ، وهو الذي عليه عامة العلماء المعاصرين : أن العملات الورقية يجري فيها الربا قياساً على الذهب والفضة .
وذلك لأن الشرع حكم بجريان الربا في الذهب والفضة لأنهما أثمان الأشياء ، أي : كانا هما العملة التي يتعامل بها الناس قديماً (الدراهم والدنانير) فكانت قيم الأشياء تقدر بالذهب والفضة ، وقد حَلَّت هذه الأوراق النقدية محل الذهب والفضة في التداول ، فوجب أن يكون لها حكم الذهب والفضة .
وقد جاء عن بعض الأئمة والعلماء المتقدمين ما يؤيد هذا .
جاء في "المدونة" (3/5) :
" قُلْت : أَرَأَيْت إنْ اشْتَرَيْت فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ فَافْتَرَقْنَا قَبْلَ أَنْ نَتَقَابَضَ قَالَ : لَا يَصْلُحُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَهَذَا فَاسِدٌ , قَالَ لِي مَالِكٌ فِي الْفُلُوسِ : لَا خَيْرَ فِيهَا نَظِرَةً [أي : مع تأجيل القبض] بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْوَرِقِ , وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجَازُوا بَيْنَهُمْ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ لَكَرِهْتُهَا أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً . قُلْت : أَرَأَيْت إنْ اشْتَرَيْت خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ خَاتَمَ ذَهَبٍ أَوْ تِبْرَ ذَهَبٍ بِفُلُوسٍ فَافْتَرَقْنَا قَبْلَ أَنْ نَتَقَابَضَ أَيَجُوزُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : لَا يَجُوزُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَا يَجُوزُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ , وَلَا تَجُوزُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا بِالدَّنَانِيرِ نَظِرَةً " انتهى .
ومعنى هذا : أن الإمام مالك رحمه الله يرى أن الفلوس يجري فيها الربا كالذهب والفضة ، لأن الناس صاروا يتعاملون بها وصارت نقداً ، بل يرى أن الناس لو تعارفوا على جعل الجلود نقوداً يتعاملون بها لكان لها حكم الذهب والفضة ، وهذا يشبه الأوراق النقدية الآن ، فصار النقد من ورق ، والذي افترضه الإمام مالك أنه يكون من جلود .
فسبحان من وفق الإمام إلى هذا المثال !
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وَالْأَظْهَرُ : أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ هُوَ الثمنية ؛ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، لَا الْوَزْنُ ...
وَالتَّعْلِيلُ بالثمنية تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِعَيْنِهَا . فَمَتَى بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ قُصِدَ بِهَا التِّجَارَةُ الَّتِي تُنَاقِضُ مَقْصُودَ الثمنية " انتهى بتصرف يسير .
"مجموع الفتاوى" (29/471-472) .
وقال ابن القيم :
" وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما كونهما موزونين . وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة . وطائفة قالت : العلة فيهما الثمنية . وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى ، وهذا هو الصحيح ، بل الصواب " انتهى .
"إعلام الموقعين" (2/156) .
وجاء في قرار "مجلس المجمع الفقهي" برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة الدورة الخامسة قرار رقم (6) :
أولاً : إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة , وبناء على أن علة الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة .
وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة , وإن كان معدنهما هو الأصل .
وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا , وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها , وبها تقوم الأشياء في هذا العصر , لاختفاء التعامل بالذهب والفضة , وتطمئن , النفوس بتمولها وادخارها , ويحصل الوفاء والإبراء العام بها , رغم أن قيمتها ليست في ذاتها , وإنما في أمر خارج عنها , وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل , وذلك هو سر مناطها بالثمنية .
وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية , وهي متحققة في العملة الورقية , لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته , له حكم النقدين من الذهب والفضة , فتجب الزكاة فيها , ويجري الربا عليها بنوعيه فضلا ونسيئة , كما يجرى ذلك في النقدين من الذهب والفضة تماما , باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما . وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها .
ثانياً : يعتبر الورق النقدي نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان , كما يعتبر الورق النقدي أجناسا مختلفة تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة . بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس , وأن الورق النقدي الأمريكي جنس , وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته , وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلا ونسيئة , كما يجري الربا بنوعية في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان" انتهى .
وجاء في توصيات وفتاوى الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي :
"أ - تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدة من أن هذه الأوراق قامت مقام الذهب والفضة في التعامل بيعا وشراء وإبراء وإصداقاً , وبها تقدر الثروات وتدفع المرتبات ولذا تأخذ كل أحكام الذهب والفضة ولا سيما وجوب التناجز [التقابض] في مبادلة بعضها ببعض وتحريم النَّسَاء [التأخير] فيها .
ب - كل عملة من العملات جنس قائم بذاته . فلا يجوز ربا الفضل فيها عند العقد أو في نهايته , سواء كانت معدنا أو ورقا إذا بيعت بمثلها , أما إذا بيعت عملة بعملة أخرى فلا يشترط في ذلك إلا التقابض .
ج - لا يجوز بيع الذهب بالعملات الورقية ولا شراء الذهب بها إلا يداً بيد" انتهى .
وجاء في "أبحاث هيئة كبار العلماء" (1/85) .
" - حكمة تحريم الربا في النقدين ليست مقصورة عليهما ؛ بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي .
- علة الربا في النقدين مطلق الثمنية .
وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة .
قال أبو بكر من أصحاب أحمد : روى ذلك عن أحمد جماعة ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من محققي أهل العلم " انتهى .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" العملة الورقية منزلة الذهب والفضة في جريان الربا في بيع بعضها ببعض ، وفي بيع الذهب والفضة بها " انتهى .
"مجموع فتاوى ابن باز" (19/158)
والخلاصة : أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ، كما أنها لا تجمع بين المختلفات المتضادات ، فلما حكمت الشريعة بجريان الربا في الذهب والفضة لأنها أثمان الأشياء ، وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى كل ما صار ثمناً للأشياء ، كالفلوس والأوراق النقدية .
ويمكنك مراجعة كتاب :
- "فقه المعاملات الحديثة" د. عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان.
- "توظيف الأموال بين المشروع والممنوع" د. عبد الله بن محمد الطيار.
- "قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي".
وأما ما ذكرته من شبهة أن الربا في الأصناف الستة فقط ، فهو قول غير صحيح ، ومخالف أيضا لما عليه جمهور أهل العلم (منهم : أئمة الفقه الأربعة) .
قال الشيخ صالح الفوزان :
"قول جمهور العلماء : أن الربا يتجاوز هذه الأصناف الستة إلى غيرها مما شاركها في العلة".
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"الأشياء التي يحرم فيها الربا هي : الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح ، وما شارك هذه الأصناف الستة في علة الربا ، وهي في النقدين : الثمنية ، وفي بقية الأصناف : الكيل مع الطعمية على الصحيح من أقوال العلماء" انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (13/268) .
والله أعلم .
تعليق