الحمد لله.
أولاً :
قبل الإجابة لا بد من التنبيه على أمرٍ جلل ، وهو أنه يحرم الكلام في دين الله تعالى بغير علم وهدى .
قال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) الأعراف/ 33 .
كما أنه يحرم الاعتراض على شرع الله في أحكامه ، بل يجب التسليم ، ولا مانع من السؤال عما خفي حكمه ، أو حكمته ، لكن ليس أن يبدأ بالاعتراض والرد ، فيقول القائل : كيف هذا ، وأنا لا أرضى به ؟! حتى لكأنه يتحكم في أمر من ملكه ، أو يحكم على صبي من بني جنسه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء/ 65 .
فنحن وإن كنا فرحين بمراسلتك لنا ، واستفسارك عن المسألة ، لكن قد أحزننا ، بل أفزعنا ، ذلك الكلام ، وذلك الحوار بينك وبين صاحبك ، فهلا سألتما ـ قبل الاعتراض ، والرد والتكذيب ـ عما جهلتما ؛ فإنما شفاء العيّ السؤال ؟!
وهل علمتما خطر الرد والتكذيب بأمر ، لم تحيطا به علماً ؟! قال الله تعالى : ( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يونس/39 .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
" والذي حملهم على التكذيب بالقرآن المشتمل على الحق الذي لا حق فوقه ، أنهم لم يحيطوا به علمًا ؛ فلو أحاطوا به علمًا وفهموه حق فهمه ، لأذعنوا بالتصديق به ... وهذا التكذيب الصادر منهم، من جنس تكذيب من قبلهم ، ولهذا قال: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وهو الهلاك الذي لم يبق منهم أحدًا .
فليحذر هؤلاء أن يستمروا على تكذيبهم ، فيحل بهم ما أحل بالأمم المكذبين والقرون المهلكين.
وفي هذا دليل على التثبت في الأمور، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده، قبل أن يحيط به علمًا " .
ثانياً :
أيها الأخ السائل :
لنا مع كلامك الذي سطرته آنفاً وقفات ، نرجو تأملها ، والتفكر بها :
1. ما كان ينبغي لك الاعتراض على رحمة الله ، وفضله ، وكرمه ، وأنت أحوج ما تكون لذلك ؛ لأنه لا بدَّ أن يقع منك تقصير في حق الله ، ما تحتاج معه لرحمة ربك تعالى ، واعلم أن ما تقدمه من أعمال لا يؤهلك لدخول الجنة به ، ولا يدخل أحدٌ الجنَّة – حتى النبي محمد صلى الله عليه وسلم – إلا برحمته عز وجل .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ . قَالُوا : وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلا أَنَا ، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ) . رواه البخاري (6098) ومسلم (2816) .
2. اعلم أن مقارنتك المذكورة ليست أكثر من مغالطة ، أو وسوسة لفظية من وسوسات الشيطان ؛ فالله جل جلاله لا يغفر للكافر حين كفره : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ) النساء/48 . وإنما يغفر الله تعالى للكافر إذا أسلم وآمن ، يعني : أنه حين كفره قد صار مسلماً ، تائباً من أعمال الجاهلية والكفر ، قد بدأ صفحة جديدة مع ربه ، وعفا الله له عما سلف ، لأجل إسلامه ؛ فأنت توازن في حقيقة الأمر بين مسلم تاب من ذنب سابق ، ومسلم آخر مقيم على ذنب في الحاضر!!
3. اعلم أن فضل الله تعالى على الناس عظيم ، فهو يغفر الذنب مهما عظم ، ويقبل التوب من التائب ، بل ويفرح بتوبة عبده - مع استغنائه عز وجل عن جميع خلقه - ، ليس هذا فحسب ، بل ويبدل سيئاته حسنات ! ولا فرق في هذا بين كافر أسلم ، وبين عاصٍ تاب .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ) الفرقان/ 68 – 70 .
ومما لا شك فيه أن أمر التوبة من المعصية أهون من إسلام الكافر ، فأنت تتقلب في نعم الله تعالى ، والتوفيق للتوبة والاستغفار توجد له أسبابه الكثيرة وأنت في دائرة الإسلام ، وأنَّى يكون مثل هذا لكافر يحتاج أولاً أن يتخلى عن دينه ، ثم يدخل في الإسلام ؟! ولعظم أمر التخلي عن التدين بغير الإسلام ، وعظم التخلي عن المعصية : وعد الله تعالى جميع هؤلاء بمغفرة ذنوبهم ، وإبدالها حسنات إن هم فعلوا الصواب ، فأسلم الكافر ، وتاب العاصي ، وهذا من عظيم فضل الله تعالى ورحمته .
فاعتراضك على أن الله يسألك عن ذنوبك ، ولا يسأل الكافر إذا أسلم : في غير محله ؛ لأنه جاء بما يمحو ذنوبه كلها ، فبماذا جئت أنت ؟ وما هو مطلوب منك أنت أيسر مما هو مطلوب منه ، فمن يقال له : دع دينك الذي أنت عليه : يُغفر لك ذنبك : أتساويه بمن يقال له من المسلمين : تب من معصيتك : يُغفر لك ذنبك ؟! فمن جاء بما يمحو به ذنبه من إسلام ، أو هجرة ، أو توبة ، أو حد يقام عليه : غفر له ذنبه ، ومن لم يأت من ذلك بشيء فهو إلى الله إن شاء غفر له ، وإن شاء عذَّبه ، إلا أن يلقى الله تعالى بالكفر ، فمثله لا يغفر الله له .
قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ) النساء/ 48 .
وهذا وجه آخر في الرد على كلامك : وهو أن لقاء المسلم ربه بذنوبه لا يعني الجزم بتعذيبه عليها ، بل قد يغفرها الله له ، بخلاف الكافر فإنه محروم من المغفرة حرماناً أبدياً ، ومخلد في النار أبد الآبدين ، إذا لم يتب من شركه .
4. وهل تظن الأمر بهذه السهولة حتى تعترض عليه ؟! فهل كل من جاء بالكفر ، والمعاصي الكبيرة والصغيرة هل تظن مثل هؤلاء يوفق للإسلام قبل وفاته ، حتى تظن أنه سوف يقول : أنا أزني ، وأقتل .. ، ثم أتوب قبل أن أموت ؟ وهل يعلم أحد متى تأتيه منيته ؟ وهل يجزم أحد بتوبته قبل لقاء ربه ؟ هذا أبو طالب مثال ، فقد كان مدافعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقتنعاً بصدقه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو بنفسه الداعي له للدخول في الإسلام بكلمة واحدة ، فهل قالها ؟ هل وُفِّق لقولها ؟ وهل انتفع والد إبراهيم بدعوة ابنه عليه السلام ؟ وهل انتفعت امرأة نوح وولدها بدعوة نبي الله نوح عليه السلام ؟ ليس الأمر كما ظننته أخي السائل بهذه السهولة ، أن يكفر الكافر ثم يسلم وقتما شاء ، أو يعصي العاصي ثم يتوب وقتما شاء ، إن المسألة متعلقة بتوفيق الله ، وهدايته ، وبما تكنه صدورهم من حب الخير لأنفسهم ، والبحث عن الحق ، فاجعل قلبك معلقا بربك أن يوفقك ، ويحسن ختامك ، ويصلح لك شأنك .
5. وكما أن الله تعالى يقبل توبة العاصي ، وإسلام الكافر ، قبل موتهما – ما لم يغرغرا - : فإنه يُحبط عمل المسلم إذا ختم حياته بردة ، ولو قضى عمره كله في الطاعة ، فعاد الأمر إلى صدق الباطن وكذبه عند الطرفين ، ولا علاقة لحياة الأول المليئة بالكفر والمعاصي ، ولا حياة الثاني المليئة بالطاعة ، بل العبرة بالخواتيم ، ولا تغتر بما يظهر لك من نفسك ، ومن الناس ، واحرص على صلاح الباطن ، فالأمر بما يعلمه الله بما في بواطن الناس لا بما ظهر لنا منها .
عَنْ سَهْل بنِ سَعْد رَضِيَ الله عَنْه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) .
رواه البخاري ( 2742 ) ومسلم ( 112 ) .
وفي رواية للبخاري ( 6233 ) بزيادة في آخره : ( وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ ) .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
وقوله ( فيما يبدو للناس ) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك ، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد ، لا يطلع عليها الناس ، إما من جهة عمل سييء ، ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت ، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير ، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره ، فتوجب له حسن الخاتمة .
" جامع العلوم والحِكََم " ( 1 / 57 ) .
فتأمل أخي السائل حكمة الرب الجليل من هذا التشريع ، فالطائع لا ينبغي له أن يغتر بعمله ، فإنه لا يدري بم يُختم له ، والعاصي لا يقنط من رحمة ربه ؛ فإنه لعله أن يوفق للتوبة .
قال النووي – رحمه الله – في فوائد الحديث الأخير - :
ففيه التحذير من الاغترار بالأعمال ، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها ، ولا يركن إليها ؛ مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق ، وكذا ينبغى للعاصي أن لا يَقنَط ، ولغيره أن لا يقنِّطه من رحمة الله تعالى .
" شرح مسلم " ( 2 / 126 ، 127 ) .
6. واعلم أخيراً : أن ما ذكرناه من قبول الله تعالى لإسلام الكافر ، وتوبة العاصي : إنما هو في حال أن يكون ذلك منهم قبل حضور الموت ، وقبل الغرغرة .
قال تعالى : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) النساء/ 18 .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ.
رواه الترمذي ( 3537 ) وابن ماجه ( 4253 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
ومن رحمة الله تعالى بعباده أنه يقبل التوبة حتى ممن جُهزت الحجارة لرجمه ، وجهز السيف للقصاص منه ، وأصيب بمرضٍ أيس من شفائه - كما بيناه في جواب السؤال رقم : (1807) - وكل ذلك لا يصدق عليه أنه في حال الغرغرة ، ولا حضره الموت ، وهذا من لطف الله تعالى ، ورحمته ، وعظيم فضله ، وبالغ كرمه ، وقد سبقت رحمته تعالى غضبه ، وادخر تعالى للخلق تسعاً وتسعين رحمة في الآخرة ، فهذا الرب تعالى الذي آمنَّا به ، وعلمنا أسماءه وصفاته ، ونرجوه أن يغفر لنا زلاتنا ، ويستر علينا ذنوبنا ، ويتجاوز عنها ، ونرجوه عظيم فضله ، وواسع جنانه يوم نلقاه .
ولتعلم يا عبد الله أن أمر الله في عباده دائر بين العدل والفضل ؛ فالله حكم قسط ، لا يظلم الناس شيئاً ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) النساء/40 ؛ فتأمل كيف أن الله جل جلاله وعد ، وهو جل جلاله لا يخلف الميعاد ، ألا يظلم مثقال ذرة ، وهذا عدله سبحانه ، وأما فضله : فيضاعف الحسنات : الحسنة بعشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . فتعرض لنفحات ربك ، وتعرض لرحمته وفضله ، ودع عنك الوساوس ومغاليط الكلام .
والله أعلم
تعليق