الحمد لله.
الذي تقرره الأدلة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه الله عليها مرتين اثنتين فقط ، وقد عد السيوطي رحمه الله هذا الأمر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما في " الخصائص الكبرى " (1/197)، وهاتان الرؤيتان هما :
الرؤية الأولى : كانت في الأرض في بداية الوحي ، ونزلت عليه بعدها سورة المدثر .
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ – أي انقطاع - الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ : (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا فَرَجَعْتُ ، فَقُلْتُ : زَمِّلُونِي ، زَمِّلُونِي ، فَدَثَّرُونِي ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ – إلى – والرجز فَاهْجُر) رواه البخاري (4641) ومسلم (161) .
وهذه الرؤية هي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ) التكوير/23 .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"يعني : ولقد رأى محمدٌ جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ، (بِالأفُقِ الْمُبِينِ) أي : البين ، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء (موضع بمكة) ، وهي المذكورة في قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) النجم/5 –10 ، كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريره ، والدليلُ أن المرادَ بذلك جبريل عليه السلام .
والظاهر- والله أعلم - أن هذه السورة – يعني سورة التكوير - نزلت قبل ليلة الإسراء ؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية ، وهي الأولى .
وأما الثانية وهي المذكورة في قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) النجم: 13 -16، فتلك إنما ذكرت في سورة " النجم " ، وقد نزلت بعد سورة الإسراء " انتهى .
" تفسير القرآن العظيم " (8/339) .
والرؤية الثانية : كانت في السماء ، ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى .
وقد نصت الآية في سورة النجم على الرؤية الثانية ، وأشارت إلى الرؤية الأولى ، وذلك في قوله سبحانه وتعالى : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ) النجم/13-14.
قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير هذه الآية : رأى جبريل له ستمائة جناح .
رواه البخاري (3232) ومسلم (174) .
قال النووي رحمه الله :
"وهكذا قاله أيضا أكثر العلماء ، قال الواحدي : قال أكثر العلماء : المراد رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها" انتهى .
"شرح النووي على مسلم" (3/7) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
"هذه الرؤية – يعني الأولى - لجبريل ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح .
ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء" انتهى .
"تفسير القرآن العظيم" (7/445) .
ولم يثبت وقوع رؤية ثالثة حقيقية لجبريل عليه السلام ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها :
( وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ ) رواه البخاري (4855) ، وهو عند الإمام مسلم (177) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) .
والله أعلم .
تعليق