الحمد لله.
أولا :
رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام - إذا وقعت على صورته الحقيقية - فهي رؤيا حق وصدق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد سبق تقرير ذلك في جواب السؤال رقم : (23367)
ثانيا :
إذا رأى الرائي في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية ، ورآه في حالٍ مُبَشِّرٍ بالخير أو متكلِّمٍ به : فلا شك أن ذلك مِن عاجل البشرى ، ويُرجى لصاحبها الخير من ورائها ، إن شاء الله .
أما إن رآه على حال الغضب منه ، والإنكار عليه ، أو بما يُؤَوِّلُه المعبِّرُ العارف الصادقُ أنه أمارة شرٍّ في الرائي : فيجب عليه حينئذ أن يتَّعظ بهذه الرؤيا ، ويتدارك ما فرط وقصر .
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" إن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائي وفيه – أي وخيرٌ فيه - ، وعلى العكس فبالعكس... - فمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقد - رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي به ، فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها ، ولا يهمل أمرها ؛ لأنها إما بشرى بخير ، أو إنذار من شر ، إما ليخيف الرائي ، وإما لينزجر عنه ، وإما لينبه على حكم يقع له في دينه أو دنياه.... " انتهى.
" فتح الباري " (12/384)
ثالثا :
بذلك نعلم خطأ دعوى أنَّ كلَّ مَن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام على أي حال كانت هذه الرؤيا أنه قد حرمه الله على النار ، وبشره بدخول الجنة ، فهذا فَضْلٌ غيبيٌّ لا يجوز تصديقه إلا إذا جاء به دليل خاص من الكتاب والسنة الصحيحة ، وقد بحثنا عنه فلم نقف إلا على حديثين يَستدل بهما بعض الناس ، ولا يصح الاستدلال بهما على ذلك :
أما الحديث الأول :
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لَا تَمَسُّ النَّارُ مُسْلِمًا رَآنِي أَوْ رَأَى مَنْ رَآنِي )
رواه الترمذي (3858) وقال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم . ولكنه حديث ضعيف ، وعبارة الترمذي تشير إلى تضعيف هذا الوجه ، وضعفه الشيخ الألباني في " ضعيف الترمذي ".
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" وأما الحديث : ( من رآني فقد حرمت عليه النار ) فهذا لا أصل له ، وليس بصحيح " انتهى. باختصار.
" فتاوى الشيخ ابن باز " ( 4 / 445 ) و ( 25 / 126 ) .
وأما الحديث الثاني :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي )
رواه البخاري (6993)، ومسلم (2266) ولفظه: ( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ - أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ - لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي )
فذهب بعض العلماء – كما ذكره القاضي عياض وجها في تأويل الحديث - أن في قوله صلى الله عليه وسلم : ( فسيراني في اليقظة ) بشرى لكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، أنه سيكون معه صلى الله عليه وسلم في الجنة ، ويراه هناك ، وسينال شفاعته يوم القيامة .
والأقرب للصواب في تأويل الحديث هو ما توضحه رواية الإمام مسلم رحمه الله ، حيث جاء فيها ( لكأنما رآني في اليقظة )، يريد بذلك صلى الله عليه وسلم تأكيد أن من رآه في المنام على صورته الحقيقية لا ينبغي له التشكك في صورته ووجهه ، كأنما رآه في اليقظة ، وهذا اللفظ هو الأكثر في روايات الحديث .
ينظر : " فتح الباري " (12/383) ، " السلسلة الصحيحة " (رقم/2729) .
وأما رواية ( فسيراني في اليقظة )، فقد فسرها العلماء بما يتوافق مع ألفاظ الأحاديث الأخرى.
قال الإمام النووي رحمه الله :
" قال العلماء : إن كان الواقع في نفس الأمر : ( فكأنما رآني ) فهو كقوله صلى الله عليه وسلم : ( فقد رآني ) أو ( فقد رأى الحق ) كما سبق تفسيره .
وإن كان : ( سيراني في اليقظة ) ففيه أقوال :
أحدها : المراد به أهل عصره ، ومعناه أنَّ مَن رآه في النوم ولم يكن هاجر ، يوفقه الله تعالى للهجرة ورؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة عيانا .
والثاني : معناه أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة ؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته : مَن رآه في الدنيا ومَن لم يره .
والثالث : يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته " انتهى.
" شرح مسلم " (15/26) ، وينظر : " فتح الباري " (12/385) ، فيض القدير، للمناوي (6/133) .
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (1/484) :
" معنى الحديث على هذه الرواية : أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام على صورته التي كان عليها في الدنيا فسيرى تأويل رؤياه ، ووقوع ما أشارت إليه من الخبر في دنياه ؛ لأن رؤياه على صورته حق ؛ لما دل عليه قوله آخر الحديث : ( فإن الشيطان لا يتمثل بي ) " انتهى.
والحاصل : أننا نرجو أن تكون الرؤيا التي رآها الأخ السائل من مبشرات الخير له ، ولكل من سلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، ولكننا لا نجزم بتحريم أحد على النار بسبب هذه الرؤيا ، كما لا نجزم في تفسير الكنز المذكور في المنام بشيء معين .
والله أعلم .
تعليق