الحمد لله.
روى أبو داود (2574) والترمذي (1700) وابن ماجة (2878) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
والسبَق : هو المكافأة أو الجائزة التي يأخذها السابق .
قال ابن الأثير في "النهاية" (2 / 844) : "ما يُجْعل من المَال رَهْنا على المُساَبَقة " انتهى .
فحرَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الرهان إلا في مسابقات الرماية والخيول والإبل ، لأن في ذلك تشجيعاً على الجهاد وتدريباً عليه ، فيحصل بذلك منفعة عظيمة ونصرة للإسلام .
وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز المراهنة في مسابقات حفظ القرآن الكريم والعلوم الشرعية ، قياساً على الثلاثة التي جاء بها الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الإسلام انتصر وينتصر بالعلم الشرعي وبالجهاد في سبيل الله ، فلما جازت المسابقات التي تعين على الجهاد في سبيل الله ، فكذلك المسابقات التي تعين على طلب العلم الشرعي .
وقد اختار القول بالجواز شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ، واختاره من علمائنا المعاصرين الشيخ ابن عثيمين وعلماء اللجنة الدائمة للإفتاء .
قال ابن القيم رحمه الله :
" المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل هل تجوز بعِوَض ؟ منعه أصحاب مالك وأحمد والشافعي ، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا وحكاه ابن عبد البر عن الشافعي ، وهو أولى من الشباك والصراع والسباحة ، فمن جوز المسابقة عليها بعوض فالمسابقة على العلم أولى بالجواز ، وهي صورة مراهنة الصّدّيق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته ، وقد تقدم أنه لم يقم دليل شرعي على نسخه ، وأن الصديق أخذ رهنهم بعد تحريم القمار ، وأن الدين قيامه بالحجة والجهاد ، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز ، وهذا القول هو الراجح " انتهى .
"الفروسية" (ص 318) .
وقال المرداوي رحمه الله في "الإنصاف" (6/91) عن هذا القول :
"وَهَذَا ظَاهِرُ اخْتِيَارِ صَاحِبِ الْفُرُوعِ . وَهُوَ حَسَنٌ" انتهى .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
بعض الطلاب في مذاكرة العلم الشرعي يجعلون من يخطئ في مسألة مطالباً بشراء كتاب مثلاً لمن أصاب فيها ، فهل هذا حلال ؟
فأجاب :
"هذه مسابقة ، ويرى شيخ الإسلام أنه لا بأس بالمسابقة الشرعية ، وقد علل ذلك رحمه الله موضحاً أن الجهاد يكون إما بالعلم ، وإما بالسلاح ، واستدل كذلك بما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى : (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) فالفرس هم الذين غلبوا الروم ، والروم نصارى من أهل الكتاب ، والفرس مجوس ليس لهم كتاب ، قال الله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ) لأن المؤمنين يحبون انتصار النصارى على الفرس ، لأن النصارى أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام من المجوس ، وقريش تحب أن ينتصر المجوس على الروم ، فقالت قريش : لا يمكن للروم أن تغلب الفرس ، لأن الفرس أقوى منهم ، وهم لا يؤمنون بالقرآن ، فراهنهم أبو بكر على شيء من الإبل مدة سبع سنين ، فمضت السنون السبع ولم يحدث شيء ، فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : (زِدْ في الأجل سنتين وزد في الرهان) ففعل أبو بكر ، فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس . ومن هذه المسألة استدل شيخ الإسلام على جواز الرهان في مسائل العلم الشرعي" انتهى باختصار.
"الباب المفتوح" (59/26) .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
" لا يجوز أخذ الجوائز على المسابقات إلا إذا كانت على وفق ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تكون على الرماية أو ركوب الخيل أو الإبل ؛ لأن هذه من وسائل الجهاد في سبيل الله ، ويلحق بها المسابقات في المسائل العلمية ، التي هي من الأحكام الشرعية ؛ لأن طلب العلم من الجهاد في سبيل الله " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (15/179) .
وسئلت اللجنة أيضاً : هل يجوز أخذ جوائز مسابقات القرآن الكريم ؟
فأجابت :
"لا حرج في أخذ الجوائز التي ترصدها الجماعات الخيرية ونحوهم ممن يعنون بتحفيظ كتاب الله" انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (15/189) .
وقال الشيخ ابن جبرين رحمه الله :
"هناك مسابقات مباحة لا تدخل في الميسر ومن ذلك : مسابقات تحفيظ القرآن أو مسابقات العلم الشرعي كالبحوث ونحوها . وهذه جائزة بجُعْل وبدون جعل" انتهى .
"فتاوى الشيخ ابن جبرين" (65 / 22)
وعلى هذا ، فمسابقات حفظ القرآن الكريم أو العلوم الشرعية يجوز أخذ الجوائز عليها ، سواء كانت هذه الجوائز من طرف ثالث ـ غير المتسابقين ـ أو من أحد المتسابقين أو منهم جميعاً .
والله أعلم .
تعليق