الحمد لله.
أولاً:تختلف ألفاظ الروايات في الأمر الواحد ، ويكون بين تلك الروايات مغايرة في الألفاظ أحياناً ، ومن أشهر تلك الأسباب التي ينبغي معرفتها : تعدد الرواة النقَلة لألفاظ ذلك الحديث الواحد المتكرر .
وأما الاختلاف الحاصل في ألفاظ رواياتهم فهو لا يخرج عن حالين :
أ. أن يكون اختلافاً يسيراً في حروف يسيرة ، وسبب ذلك الاختلاف في الألفاظ المنقولة يكون تبعاً لحفظهم ، ولضبطهم .
وفي هذه الحال يتساهل في العمل بأية رواية من تلك الروايات ، إلا أن البحث عن أصح الروايات ، وأضبط الرواة ، والعمل برواية من يروي باللفظ لا بالمعنى : هو الذي ينبغي على العامل عند الترجيح بين تلك الروايات .
ب. أن تكون الألفاظ متغايرة فيما ينقلونه بعضهم عن بعض ، وسبب ذلك أن يكون ذلك الأمر ، أو تلك العبادة لها ألفاظ متعددة في أدعيتها ، وأذكارها ، كألفاظ الأذان ، والإقامة ، وأدعية الاستفتاح ، وأذكار النوم ، فالحديث في كل ذلك واحد ، ولكنه لما كان متكرراً تعددت الألفاظ فيه ، ونتج من ذلك تعدد الروايات والنقل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني – رحمه الله - :
فهذا القسم أمره هيِّن ، وإشكاله سهل ؛ لأنه قد علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم في الأفعال المتكررة مثل أذكار الصلاة - التي ذكرنا - كان يعلمهم ، فمن روى رواية وصحت أو حسنت طرقها كتشهد ابن عباس – مثلاً - ، وتشهد ابن مسعود : فهما حديثان صحيحان اختلفت ألفاظهما والكل مرفوع ، فمثل هذا ومثل ألفاظ الأذان وغير ذلك محمول على تعداد التعليم منه صلى الله عليه وآله ، وعلِم كل ما رآه صلى الله عليه وآله وسلم توسعة على العباد ، فهم مخيرون بأي رواية عملوا أجروا واقتدوا وامتثلوا ، فمن ربَّع في التكبير ورجَّع : فليس عليه نكير ، ومن ترك التربيع : فكذلك ، إذ الكل مروي بأحاديث معمول بها دالة على التخيير للعباد ، وكذلك ألفاظ التشهد والتوحيد من أتى بأيها ممن روى بطرق معمول بها : فهو بالخيار في ذلك .
انتهى من " رسالة في اختلاف ألفاظ الحديث النبوي " .
وهي رسالة علمية قيمة ، قليلة الصفحات ، عظيمة النفع .
ثانياً:
لاختلاف الألفاظ في العبادة والشعيرة الواحدة حِكَمٌ متعددة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
العبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع لا يكره منها شيء ، وذلك مثل أنواع التشهدات ، وأنواع الاستفتاح ، ومثل الوتر أول الليل وآخره ، ومثل الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة ، وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها ، والتكبير في العيد ، ومثل الترجيع في الأذان وتركه ، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 335 ) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
والعلماءُ رحمهم الله اختلفوا في العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة ، هل الأفضل الاقتصار على واحدة منها ، أو الأفضل فِعْلُ جميعها في أوقات شتَّى ، أو الأفضل أنْ يجمعَ بين ما يمكن جَمْعُه ؟ والصَّحيح : القول الثاني الوسط ، وهو أن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة تُفعل مرَّة على وجهٍ ، ومرَّة على الوجه الآخر ، فهنا الرَّفْعُ وَرَدَ إلى حَذوِ منكبيه ، ووَرَدَ إلى فُرُوع أُذنيه ؛ وكُلٌّ سُنَّة ، والأفضل : أن تَفعلَ هذا مرَّة ، وهذا مرَّة ؛ ليتحقَّقَ فِعْلُ السُّنَّةِ على الوجهين ، ولبقاء السُّنَّةِ حيَّة ؛ لأنك لو أخذت بوجهٍ وتركت الآخر : مات الوجهُ الآخر ، فلا يُمكن أن تبقى السُّنَّةُ حيَّة إلا إذا كُنَّا نعمل بهذا مرَّة ، وبهذا مرَّة ، ولأن الإِنسان إذا عَمِلَ بهذا مرَّة وبهذا مرَّة : صار قلبُه حاضراً عند أداء السُّنَّة ، بخلاف ما إذا اعتاد الشيء دائماً فإنه يكون فاعلاً له كفعل الآلة عادة ، وهذا شيء مشاهَد ، ولهذا مَن لزم الاستفتاح بقوله : " سبحانك اللهمَّ وبحمدك " دائماً : تجده مِن أول ما يُكبِّر يشرع بـ " سبحانك اللهم وبحمدك " مِن غير شعور ؛ لأنه اعتاد ذلك ، لكن لو كان يقول هذا مرَّة ، والثاني مرَّة صار منتبهاً ، ففي فِعْلِ العباداتِ الواردة على وجوهٍ متنوِّعة فوائد :
1 . اتِّباعُ السُّنَّة .
2. إحياءُ السُّنَّة .
3. حضورُ القلب .
وربما يكون هناك فائدة رابعة : إذا كانت إحدى الصِّفات أقصرَ مِن الأخرى - كما في الذِّكرِ بعد الصَّلاةِ - فإن الإِنسان أحياناً يحبُّ أن يُسرع في الانصراف ؛ فيقتصر على " سبحان الله " عشر مرات ، و " الحمد لله " عشر مرات ، و " الله أكبر " عشر مرات ، فيكون هنا فاعلاً للسُّنَّة قاضياً لحاجته ، ولا حَرَجَ على الإِنسان أن يفعل ذلك مع قصد الحاجة ، كما قال تعالى في الحُجَّاج : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) البقرة/ 198 .
" الشرح الممتع على زاد المستقنع " ( 3 / 8 ) .
ثالثاً:
أما اختلاف الرواة في روايتهم للحدث الواحد غير المتكرر ، وللقصة الواحدة غير المتعددة : فهنا لا يمكن لطالب العلم والعامل إلا أن يرجح بين الروايات ، فيأخذ أقواها ، ويعمل بأصحها إسناداً ، إذا كان المعنى يختلف باختلاف تلك الروايات
قال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني – رحمه الله – بعد أن فصَّل في السبب الأول - :
الثاني من الوجوه : أن تتحد القصة وتختلف الألفاظ فيها :
وهذا هو المشكل ، وذلك واقع كثيراً ، كقضية بيع جمَل جابر وشرائه صلى الله عليه وسلم له منه ، فإنه اختلف لفظه في القيمة ، وفي اشتراطه ركوبه إلى المدينة ، وكاختلافهم في ركوعات صلاة الكسوف مع أنه لم يصلها إلا مرة واحدة ، بخلاف صلاة الخوف فإنه صلاها مراراً على وجوه مختلفة فهي من القسم الأول ، وكاختلافهم في حجه ، وكل منهم روى أنه حج صلى الله عليه وآله وسلم حجّاً مفرداً ، وآخرون رووا أنه تمتع ، وآخرون أنه قارن ، وهي في واقعة واحدة ، وحجة واحدة ، ونحو هذه الصور ، وهو كثير : فهذا لا بد فيه من النظر في الروايات وطرقها ، والصحيح منها والراجح من المرجوح ، وهو شيء عسير إلا على من سهله الله .
انتهى من " رسالة في اختلاف ألفاظ الحديث النبوي " .
رابعاً:
أما بخصوص الأحاديث التي ذكرها الأخ السائل :
1. فاللفظ الأول في الحديث الأول : رواه النسائي ( 1305 ) ، وصححه الألباني في " صحيح النسائي " من حديث عمَّار بن ياسر رضي الله عنه .
واللفظ الثاني : رواه البخاري ( 5990 ) ومسلم ( 2680 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
وكلا الحديثين مختلفان في المخرج ، وليس أحدهما بأولى بالعمل من الآخر ، بل يُعمل بكليهما ، لكن لا يقال هذا الدعاء إلا عند وقوع الضرر وخشية الفتنة على الدين .
قال أبو الحسن المباركفوري – رحمه الله - :
قوله ( أحيني ) إلى قوله ( خيرًا لي ) ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي ) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا ، لكن عند نزول الضرر ، كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور .
" مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 8 / 278 ) .
2. واللفظ الأول في الحديث الثاني : رواه الترمذيّ ( 3513 ) وصححه ، والنَّسائيّ في " الكبرى " ( 6 / 218 ) وابن ماجه ( 3850 ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وأما اللفظ الثاني وهو ( اللَّهُمَّ إِنَّك عَفْوٌّ كَرِيمٌ تحب الْعَفْو فَاعْفُ عَنِّي ) : فإن الزيادة الواردة في الحديث وهي " كريم " : زيادة لا أصل لها ، ونسبتها للترمذي خطأ – وهي موجودة في كثير من نسخ سنن الترمذي - ، ولم يروها الترمذي – في الواقع - ولا غيره .
قال الشيخ الألباني – رحمه الله - :
وقع في "سنن الترمذي " بعد قوله : ( عفو ) زيادة : " كريم " ! ولا أصل لها في شيء من المصادر المتقدمة ، ولا في غيرها ممن نقل عنها ، فالظاهر أنها مدرجة من بعض الناسخين ، أو الطابعين ؛ فإنها لم ترِد في الطبعة الهندية من " سنن الترمذي " التي عليها شرح " تحفة الأحوذي " للمباركفوري ( 4 / 264 ) ، ولا في غيرها ، وإن مما يؤكد ذلك : أن النسائي في بعض رواياته أخرجه من الطريق التي أخرجها الترمذي ، كلاهما عن شيخهما " قتيبة بن سعيد " بإسناده دون الزيادة .
وكذلك وقعت هذه الزيادة في رسالة أخينا الفاضل علي الحلبي : " مهذب عمل اليوم والليلة لابن السني " ( 95 / 202 ) ، وليست عند ابن السني ؛ لأنه رواه عن شيخه النسائي - كما تقدم - عن قتيبة ، ثم عزاه للترمذي ، وغيره ! ولقد كان اللائق بفن التخريج أن توضع الزيادة بين معكوفتين كما هو المعروف اليوم [ ] ، وينبَّه أنها من أفراد الترمذي ، وأما التحقيق : فيقتضي عدم ذكرها مطلقاً ؛ إلا لبيان أنه لا أصل لها ، فاقتضى التنبيه .
" السلسلة الصحيحة " ( 13 / 140 ) .
فالرواية الثانية فيها كلام ، فعليك بالأولى ؛ فإنها أصح .
3. وأما الحديث الثالث : فقد رواه البخاري ( 1103 ) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه .
وقولك " هناك روايات أخرى له " : فالجواب عليه : أن الحديث ليس فيه روايات مختلفة ، ولو وُجد : فعليك برواية الإمام البخاري ، وتكفيك .
4. وأما اللفظ الأول في الحديث الرابع : فقد رواه الحاكم ( 1 / 702 ) ، وباختلاف يسير في أوله – فقط - رواه أحمد ( 42 / 67 ) وصححه محققوه .
ورواه ابن ماجه ( 3846 ) بنحو تلك الألفاظ ، وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .
وأما اللفظ الثاني : فهو الحديث السابق نفسه لكن من غير زيادة ( بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ) ، وقد نسبها الحافظ العراقي في " تخريج إحياء علوم الدين " لابن ماجه ، والحاكم ، وليس فيهما تلك الجملة .
ولم نجد سبباً يجعلنا نقول بصحة هذه الزيادة ، فيُكتفى بالرواية السابقة دونها .
5. وأما اللفظ الأول في الحديث الخامس : فليس هو في " مسلم " وحده ، بل هو في الصحيحين : البخاري ( 6035 ) ومسلم ( 2719 ) .
وأما اللفظ الثاني : فرواه البخاري ( 6036 ) وهو ذات الحديث السابق لكنه أخصر منه .
وقد علَّق الحافظ ابن حجر رحمه الله على لفظة ( خَطَاياي ) فقال :
قوله ( اغفر لي خطاياي وعمدي ) وقع في رواية " الكشميهني " في طريق إسرائيل ( خطئي ) ، وكذا أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " بالسند الذي في الصحيح ، وهو المناسب لذكر العمد ، ولكن جمهور الرواة على الأول .
والخطايا جمع خطيئة ، وعطف العمد عليها من عطف الخاص على العام ؛ فإن الخطيئة أعم من أن تكون عن خطأ وعن عمد ، أو هو من عطف أحد العامين على الآخر .
" فتح الباري " ( 11 / 198 ) .
فلا تعارض بين الروايتين ، وليس ثمة صحيح وأصح ، فاذكر ربك تعالى بأي الصيغتين شئت ، ولا يخفى أن الرواية الأولى أوسع .
6. وأما اللفظ الأول في الحديث السادس : فرواه أبو داود ( 1516 ) وابن ماجه ( 3814 ) والنسائي في " الكبرى " ( 6 / 119 ) ، ولم يروه الترمذي بهذا اللفظ .
وأما اللفظ الثاني : رواه الترمذي ( 3434 ) والنسائي في " الكبرى " ( 6 / 119 ) .
وكلا الروايتين صحيحة ، وليس مخرجهما واحداً ، وهو من اختلاف التنوع ، وبأي الصيغتين استغفرت ربَّك تعالى أُجرت إن شاء الله .
والله أعلم
تعليق