الحمد لله.
اختلف الفقهاء في حكم اتكاء الخطيب على العصا ونحوها من قوس أو سيف أثناء خطبة الجمعة على قولين :
القول الأول : الندب والاستحباب ، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة .
يقول الإمام مالك رحمه الله :
" وذلك مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر ، أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصي يتوكؤون عليها في قيامهم ، وهو الذي رَأَيْنا وسَمِعْنا " انتهى.
" المدونة الكبرى " (1/151)، وهو المعتمد في كتب متأخري المالكية ، كما في " جواهر الإكليل " (1/97)، وفي " حاشية الدسوقي " (1/382).
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله :
" أحب لكل من خطب - أيَّ خطبة كانت - أن يعتمد على شيء " انتهى.
" الأم " (1/272)، وهو معتمد مذهب الشافعية أيضا ، كما في " نهاية المحتاج " (2/326)، " حاشية قليوبي وعميرة " (1/272) .
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" ويسن أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا بإحدى يديه " انتهى .
" كشاف القناع " (2/36)، وانظر: " الإنصاف " (2/397)
واستدل أصحاب هذا القول بأن الاتكاء على العصا ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة ، منها حديث الحكم بن حزن أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوم الجمعة (متوكئا على عصا أو قوس فحمد الله وأثنى عليه...) إلى آخر الحديث .
رواه أبو داود (1096) ، قال النووي في " المجموع " (4/526) : حديث حسن . وحسنه الألباني في " صحيح أبي داود ". وضعفه بعض أهل العلم ، فقال ابن كثير في " إرشاد الفقيه " (1/196) : ليس إسناده بالقوي .
القول الثاني : الكراهة ، وهو معتمد مذهب الحنفية وإن خالف بعض فقهائهم .
قال صاحب التتارخانية - ونسبه لصاحب " المحيط البرهاني " - ما نصه :
" وإذا خطب متكئاً على القوس أو على العصا جاز ، إلا أنه يكره ؛ لأنه خلاف السنة " انتهى.
" الفتاوى التتارخانية " (2/61)
وجاء في " الفتاوى الهندية " (1/148) على مذهب الحنفية :
" ويكره أن يخطب متكئا على قوس أو عصا , كذا في الخلاصة , وهكذا في المحيط , ويتقلد الخطيب السيف في كل بلدة فتحت بالسيف , كذا في شرح الطحاوي " انتهى.
وفي كلام العلامة ابن القيم ما يدل على أن الاتكاء على العصا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة على المنبر .
قال رحمه الله :
" ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيرَه ، وإنما كان يعتَمِد على قوس أو عصاً قبل أن يتَّخذ المنبر ، وكان في الحرب يَعتمد على قوس ، وفي الجمعة يعتمِد على عصا ، ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف ، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً ، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف : فَمِن فَرطِ جهله ، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ، ولا قوس ، ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً البتة ، وإنما كان يعتمِد على عصا أو قوس " انتهى.
" زاد المعاد " (1/429)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قوله : ( ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا ) أي : يسن أن يعتمد حال الخطبة على سيف ، أو قوس ، أو عصا ، واستدلوا بحديث يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صحته نظر ، وعلى تقدير صحته ، قال ابن القيم : إنه لم يحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء .
ووجه ذلك : أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة ، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد ، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة ؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة ، وما أعان على سنة فهو سنة ، أما إذا لم يكن هناك حاجة ، فلا حاجة إلى حمل العصا " انتهى.
" الشرح الممتع " (5/62-63)
وقد أيد الشيخ الألباني رحمه الله كلام ابن القيم ، ونفى أن يكون ثبت في الأحاديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب على المنبر اتكأ على القوس أو العصا ، وذلك في " السلسلة الضعيفة " (حديث رقم/964)
والله أعلم .
تعليق