الحمد لله.
يمكننا تقسيم البحث فيما ورد في السؤال إلى مسألتين :
المسألة الأولى : حكم قيام من مرت به الجنازة وهو جالس .
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : كراهة القيام للجنازة لمن مرت به ولو كان في المقبرة سابقا ، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة ، ونقله بعض الشافعية عن جمهور الأصحاب .
قال ابن الهمام الحنفي رحمه الله :
" القاعد على الطريق إذا مرت به ، أو على القبر إذا جيء به : فلا يقوم لها , وقيل يقوم , واختير الأول ؛ لما روي عن علي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس . بهذا اللفظ لأحمد " انتهى.
" فتح القدير " (2/135)
وقال الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله :
" يكره القيام للجنازة إذا مرت به ولم يرد الذهاب معها كما صرح به في " الروضة "، وجرى عليه ابن المقري ، خلافا لما جرى عليه المتولي من الاستحباب " انتهى.
" مغني المحتاج " (2/20)، وعزاه النووي رحمه الله في " المجموع " (5/241) إلى الإمام الشافعي وجمهور الأصحاب .
وقال البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" ( وإن جاءت ) الجنازة ( وهو جالس أو مرت به ) وهو جالس ( كره قيامه لها ) لحديث ابن سيرين قال : مر بجنازة على الحسن بن علي وابن عباس , فقام الحسن ولم يقم ابن عباس ، فقال الحسن لابن عباس : أما قام لها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال ابن عباس : قام ثم قعد . رواه النسائي " انتهى.
" كشاف القناع " (2/130)
القول الثاني : يستحب قيام مَن مَرَّت به الجنازة ، وهو القول الآخر عند الشافعية ، ومذهب ابن حزم الظاهري .
قال الإمام النووي رحمه الله :
" هذا الذي قاله صاحب " التتمة " هو المختار – يعني الاستحباب - , فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام , ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث علي رضي الله عنه ، وهو ليس صريحا في النسخ , بل ليس فيه نسخ ؛ لأنه محتمل القعود لبيان الجواز ، والله أعلم " انتهى.
" المجموع " (5/241)
وقال الإمام الرملي رحمه الله :
" لو مرت عليه جنازة استحب القيام لها على ما صرح به المتولي , واختاره المصنف – يعني الإمام النووي - في " شرحي المهذب ومسلم " , وجزم ابن المقري بكراهته " انتهى.
" نهاية المحتاج " (2/467)
وقال ابن حزم رحمه الله :
" نستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء - وإن كانت جنازة كافر - حتى توضع أو تخلفه , فإن لم يقم فلا حرج " انتهى.
" المحلى " (3/380)
واستدلوا بما يلي :
1- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ )
رواه مسلم (958)
2- وعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ ، فَمَرَّتْ بِهِمَا جَنَازَةٌ فَقَامَا ، فَقِيلَ لَهُمَا : إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَقَالَا : ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ يَهُودِيٌّ ؟ فَقَالَ : أَلَيْسَتْ نَفْسًا )
رواه مسلم (960)
وأجابوا عن أدلة القول الأول بأن قعود النبي صلى الله عليه وسلم ليس صريحا في النسخ ، إذ قد يكون لبيان الجواز كما سبق نقله في كلام النووي رحمه الله .
قال ابن حزم رحمه الله :
" فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام مبينا أنه أمر ندب , وليس يجوز أن يكون هذا نسخا ; لأنه لا يجوز ترك سنة متيقنة إلا بيقين نسخ , والنسخ لا يكون إلا بالنهي , أو بتركٍ معه نهي ؟
فإن قيل : قد رويتم من طريق حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال : قمت إلى جنب نافع بن جبير في جنازة , فقال لي : حدثني مسعود بن الحكم ، عن علي بن أبي طالب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام . ثم أمرنا بالجلوس .
فهلا قطعتم بالنسخ بهذا الخبر ؟
قلنا : كنا نفعل ذلك , لولا ما روينا من طريق أحمد بن شعيب ، أنا يوسف بن سعيد ، نا حجاج بن محمد هو الأعور ، عن ابن جريج ، عن ابن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة , وأبي سعيد الخدري قالا جميعا : ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع .
فهذا عمله عليه السلام المداوم , وأبو هريرة وأبو سعيد ما فارقاه عليه السلام حتى مات , فصح أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف , وأمره بالقيام وقيامه ندب " انتهى.
" المحلى " (3/380-381) .
المسألة الثانية : حكم بقاء المشيعين للجنازة قياما في المقبرة حتى يوضع الميت في قبره
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : استحباب القيام وكراهة الجلوس ، وهو المعتمد في مذهب الحنفية والحنابلة ، واختاره بعض الشافعية .
قال ابن الهمام الحنفي رحمه الله :
" ( وإذا بلغوا إلى قبره يكره أن يجلسوا قبل أن يوضع عن أعناق الرجال ) ؛ لأنه قد تقع الحاجة إلى التعاون ، والقيام أمكن منه ؛ ولأن المعقول من ندب الشرع لحضور دفنه إكرام الميت , وفي جلوسهم قبل وضعه ازدراء به وعدم التفات إليه , هذا في حق الماشي معها " انتهى.
" فتح القدير " (2/135)
وقال البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" ( ويكره جلوس من تبعها ) أي : الجنازة ( حتى توضع بالأرض للدفن ) ، نص عليه ، ( إلا لمن بعد عنها ) أي : عن الجنازة ، فلا يكره جلوسه قبل وضعها بالأرض , لما في انتظاره قائما من المشقة...( وكان ) الإمام ( أحمد إذا صلى على جنازة - هو وليها - لم يجلس حتى تدفن ) نقله المروذي . ( ونقل حنبل : لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن جبرا وإكراما ) ووقف علي على قبر فقيل له : ألا تجلس يا أمير المؤمنين ؟ فقال : قليل على أخينا قيامنا على قبره . ذكره أحمد محتجا به " انتهى.
" كشاف القناع " (2/130)
واستدلوا بحديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا اتَّبَعْتُمْ جَنَازَةً فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ ) رواه مسلم (959)
القول الثاني : كراهة القيام ، وهو معتمد مذهب المالكية ، على خلاف بينهم ، وقول عند الشافعية والحنابلة .
جاء في " منح الجليل شرح مختصر خليل " (1/517) :
" ( و ) كره ( قيام لها ) أي الجنازة من جالس مرت عليه ، أو من سبقها للقبر , وكذا استمرار مشيعها قائما حتى توضع , وقد نسخ هذا كله بما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم للجنازة ثم جلس , وأمرهم بالجلوس " انتهى باختصار.
وقال الإمام النووي رحمه الله :
" ثبتت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام لمن مرت به جنازة حتى تخلفه أو توضع ، وأمر من تبعها أن لا يقعد عند القبر حتى توضع .
ثم اختلف العلماء في نسخه :
فقال الشافعي وجمهور أصحابنا : هذان القيامان منسوخان فلا يؤمر أحد بالقيام اليوم , سواء مرت به أم تبعها إلى القبر .
ثم قال المصنف وجماعة : هو مخير بين القيام والقعود .
وقال آخرون من أصحابنا : يكره القيام لها إذا لم يرد المشي معها , ممن صرح بكراهته سليم الرازي في " الكفاية "، والمحاملي ، وصاحب " العدة " ، والشيخ نصر المقدسي .
قال المحاملي في المجموع : القيام للجنازة مكروه عندنا وعند الفقهاء كلهم . قال : وحكي عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه أنه كان يقوم لها .
وخالف صاحب " التتمة " الجماعة فقال : يستحب لمن مرت به جنازة أن يقوم لها , وإذا كان معها لا يقعد حتى توضع .
وهذا الذي قاله صاحب " التتمة " هو المختار , فقد صحت الأحاديث بالأمر بالقيام , ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث علي رضي الله عنه وهو ليس صريحا في النسخ , بل ليس فيه نسخ ، لأنه محتمل القعود لبيان الجواز والله أعلم " انتهى.
" المجموع " (5/241)
وقال المرداوي رحمه الله :
" قوله ( ولا يجلس من تبعها حتى توضع ) يعني يكره ذلك , وهو المذهب وعليه الأصحاب , وعنه : لا يكره الجلوس لمن كان بعيدا عنها .
تنبيه : قوله " حتى توضع " يعني بالأرض للدفن , وهذا المذهب نقله الجماعة , وعنه حتى توضع للصلاة , وعنه حتى توضع في اللحد .
قوله ( وإن جاءت وهو جالس لم يقم لها ) , وهو المذهب نص عليه , وعليه أكثر الأصحاب وجزم به في " الوجيز " وغيره ، وقدمه في " الفروع " , و " المغني ", و " الشرح " وغيرهم , وعليه أكثر الأصحاب .
وعنه : يستحب القيام لها , ولو كانت كافرة ، نصره ابن أبي موسى واختاره القاضي , وابن عقيل , والشيخ تقي الدين , وصاحب " الفائق " فيه .
وعنه : القيام وعدمه سواء .
وعنه : يستحب القيام حتى تغيب أو توضع . وقاله ابن موسى .
قال في الفروع : ولعل المراد على هذا : يقوم حين يراها قبل وصولها إليه ; للخبر .
فوائد : كان الإمام أحمد رحمه الله إذا صلى على جنازة هو وليها لم يجلس حتى تدفن , ونقل حنبل : لا بأس بقيامه على القبر حتى تدفن ، جبرا وإكراما . قال المجد في شرحه : هذا حسن لا بأس به , نص عليه " انتهى.
" الإنصاف " (2/542-543)
واختار غير واحد من أهل العلم المعاصرين القول باستحباب القيام للجنازة في المسألتين ، في حالة مرورها بالقاعد ، وفي حالة وصولها إلى المقبرة للدفن ، اعتمادا على الأدلة الصريحة التي جاء فيها القيام للجنازة من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، وعدم ثبوت ما يدل على النسخ ، وأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم القيام في بعض الأحيان فهو لبيان الجواز .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
إذا كان المسلم في المسجد ورأى الجنازة هل يقوم ؟
فأجاب :
ظاهر الحديث العموم ، فهو إذن مستحب , ومن تركه فلا حرج ; لأن القيام لها سنة وليس بواجب ; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام تارة ، وقعد أخرى ، فدل ذلك على عدم الوجوب " انتهى.
" مجموع فتاوى ابن باز " (13/187-188)
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الراجح أن الإنسان إذا مرت به الجنازة قام لها ؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك ، وفعله أيضاً ، ثم تركه ، والجمع بين فعله وتركه أن تركه ليبين أن القيام ليس بواجب " انتهى.
" مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (17/112)
والله أعلم .
تعليق