الحمد لله.
يورد العلماء هذا الحديث في تفسير قول الله تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) النحل/126.
والجواب عن الاستشكال الوارد عليه يسير وواضح ، وهو أنه حديث ضعيف لا يثبت ، يُروَى عن ثلاثة من الصحابة الكرام مِن طرق لا تصح :
الحديث الأول : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه :
( أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ نَظَرَ إِلَى حَمْزَةَ وَقَدْ قُتِلَ وَمُثِّلَ بِهِ ، فَرَأَى مَنْظَرًا لَمْ يَرَ مَنْظَرًا قَطُّ أَوَجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهِ وَلا أَوْجَلَ ، فَقَالَ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ ، فَقَدْ كُنْتَ وَصُولا لِلرَّحِمِ ، فَعُولا لِلْخَيْراتِ ، وَلَوْلا حُزْنُ مَنْ بَعْدَكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ أَدَعَكَ حَتَّى تَجِيءَ مِنْ أَفْوَاجٍ شَتَّى .
ثُمَّ حَلَفَ وَهُوَ وَاقِفٌ مَكَانَهُ : وَاللَّهِ لأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ .
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي مَكَانِهِ لَمْ يَبْرَحْ بَعْدُ : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) النحل/126، حَتَّى تُخْتَمَ السُّورَةُ ، فَكَفَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ .
رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (3/143)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (3/183)، والحاكم في " المستدرك " (3/218)، والآجري في " الشريعة " (رقم/1677)، والبيهقي في " شعب الإيمان " (12/185) جميعهم من طريق صالح المري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وهذا إسناد ضعيف بسبب صالح بن بشير المُرِّي ، القاص العابد ، قال ابن المديني : ضعيف جدا . وقال ابن معين : ليس بشيء . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال النسائي : ضعيف الحديث ، له أحاديث مناكير . وقال ابن عدي : عامة أحاديثه منكرات . وهكذا كان عامة المحدثين على ضعف حديثه ونكارته . انظر: " تهذيب التهذيب " (4/383)
ولذلك قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" وهذا إسناد فيه ضعف " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (4/614)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" بإسناد فيه ضعف " انتهى.
" فتح الباري " (7/371)
وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في " السلسلة الضعيفة " (رقم/550)
الحديث الثاني : عن ابن عباس رضي الله عنهما
وقد روي عن ابن عباس من طريقين ضعيفين :
الأول : لفظه : ( لَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ وَمُثِّلَ بِهِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَئِنْ ظَفِرْتُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ . فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) النحل/126، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَلْ نَصْبِرُ ).
رواه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (3/184) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " (3/288) كلاهما من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : ثنا قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس به .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
" سنده ضعيف ، مسلسل بالضعفاء الثلاثة : ابن أبي ليلى فَمَن دونه " انتهى.
" السلسلة الضعيفة " (رقم/550)
والطريق الثاني : لفظه : ( لمَّا انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى منظرا أساءه ، رأى حمزة رضي الله عنه قد شق بطنه ، واصطلم أنفه وجدعت أذناه ، فقال : لولا أن يحزن النساء ، أو يكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير ، لأمثلن مكانه بسبعين رجلا ، ثم دعا ببردة فغطى بها وجهه ، فخرجت رجلاه ، فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ، وجعل على رجليه شيئا من الإذخر ، ثم قدمه فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة ، وكان القتلى سبعين ، فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) إلى قوله : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ) فصبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يمثل بأحد )
رواه الدارقطني في " السنن " (4/118) ومن طريقه الواحدي في " أسباب النزول " (152)
قال الدارقطني : نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، نا الحكم بن موسى ، نا إسماعيل بن عياش ، عن عبد الملك بن أبي عتبة أو غيره ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس به .
وهذا إسناد ضعيف ، لما فيه من الإبهام حيث قال : عن عبد الملك بن أبي عتبة أو غيره ، ثم عقبه الدارقطني بتضعيفه قائلا : " لم يروه غير إسماعيل بن عياش ، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين " انتهى.
الحديث الثالث : عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال :
( لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال : والله لأمثلن بسبعين منهم . فجاء جبريل بهذه الآية : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) فقال : يا جبريل ! ما هذا ؟ قال : لا أدري حتى أسأل . ثم عاد فقال : ( إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك )
رواه ابن مردويه – كما نقل إسناده الزيلعي في " تخريج أحاديث الكشاف " (1/477) – قال :
حدثنا أحمد بن إسحاق بن نيخاب الطيبي ، ثنا محمد بن يونس ، ثنا عبد الله ابن داود الخريبي ، ثنا عبادة بن مسلم ، عن العلاء بن بدر ، عن قيس بن سعد بن عبادة به .
وفي هذا الإسناد محمد بن يونس الكديمي : متهم بالكذب .
قال حمزة بن يوسف السهمى : سمعت الدارقطنى يقول : كان الكديمى يتهم بوضع الحديث .
وقال ابن حبان : كان يضع الحديث ، لعله قد وضع على الثقات أكثر من ألف حديث .
" تهذيب التهذيب " (9/475-478)
فالحاصل أن الأحاديث الثلاثة ضعيفة لا تتقوى ، لما فيهما من أسباب الضعف الشديد والنكارة ، والثابت أن الذي توعد بالتمثيل بجثث المشركين هم بعض الصحابة ، وليس النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك رغبة في الانتقام لقتلاهم الذين مَثَّل المشركون بهم ، كما هي طبيعة البشر في حب القصاص من الظالم والمعتدي بمثل ما ظلم واعتدى ، ولكن الله عز وجل نهاهم عن ذلك ، وندبهم إلى الصبر واحتساب الأجر عند الله .
فقد ثبت عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه قال :
( لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ ، فِيهِمْ حَمْزَةُ ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ . قَالَ : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ )
رواه الترمذي (رقم/3129) وغيره . وقال الترمذي : حسن غريب . وصححه الذهبي في " التلخيص " (2/391)، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي "، وفي " السلسلة الصحيحة " (رقم/2377)
والله أعلم .
تعليق