الحمد لله.
أولاً :
يكره السهر والسمَر بعد صلاة العشاء - وإن كان في الأمور المباحة - .
ويدل على ذلك ما رواه البخاري (568) ومسلم ( 647) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا .
قال النووي: " وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا إِلَّا مَا كَانَ فِي خَيْر ". انتهى" شرح صحيح مسلم " (5/146) .
وقال الحافظ ابن رجب : " ومتى كان السمر بلغو ، ورفث ، وهجاء ، فإنه مكروه بغير شك ". انتهى " فتح الباري" (3/377) .
قال النووي : " وَسَبَب كَرَاهَة الْحَدِيث بَعْدهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى السَّهَر , وَيُخَاف مِنْهُ غَلَبَة النَّوْم عَنْ قِيَام اللَّيْل , أَوْ الذِّكْر فِيهِ , أَوْ عَنْ صَلَاة الصُّبْح فِي وَقْتهَا الْجَائِز , أَوْ فِي وَقْتهَا الْمُخْتَار أَوْ الْأَفْضَل .
وَلِأَنَّ السَّهَر فِي اللَّيْل سَبَب لِلْكَسَلِ فِي النَّهَار عَمَّا يَتَوَجَّه مِنْ حُقُوق الدِّين ، وَالطَّاعَات ، وَمَصَالِح الدُّنْيَا ". انتهى" شرح صحيح مسلم " (5/146) .
وقال الحافظ ابن حجر : " وَالسَّمَر بَعْدَهَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى النَّوْم عَنْ الصُّبْح ، أَوْ عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار ، أَوْ عَنْ قِيَام اللَّيْل .
وَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّابِ يَضْرِب النَّاس عَلَى ذَلِكَ وَيَقُول : أَسَمَرًا أَوَّلَ اللَّيْل وَنَوْمًا آخِرَهُ ؟" . انتهى من " فتح الباري" (2 / 73) .
وهذا هو الموافق لسنة الله في جعل الليل محلاً للنوم والراحة ، والنهار للعمل والكسب ، كما قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .
وقال : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) ففي الليل سكينة وقرار ونوم وراحة ، وفي النهار نشاط وعمل .
قال القرطبي : " وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها أن الله تعالى جعل الليل سكناً ، أي يُسكن فيه ، فإذا تحدث الإنسان فيه فقد جعله كالنهار الذي هو متصرف المعاش ، فكأنه قصد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجوده ". انتهى من " تفسير القرطبي" (12 / 138) بتصرف .
وهذا هو الهدي النبوي ، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ( مَا نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ ، وَلَا سَمَرَ بَعْدَهَا ) ، رواه ابن ماجه (702) وصححه الألباني .
وقال الشيخ ابن عثيمين : " وإذا أطال الإنسان السهر ، فإنه لا يعطي بدنه حظه من النوم ، ولا يقوم لصلاة الصبح ، إلا وهو كسلان تعبان ، ثم ينام في أول نهاره عن مصالحة الدينية والدنيوية .
والنوم الطويل في أول النهار يؤدي إلى فوات مصالح كثيرة ، وقد جرب الناس أن العمل في أول النهار أبرك من العمل في آخر النهار ، وأنه أسد وأصلح وأنجح ، فإن البكور مبارك فيه ، وهؤلاء الذين يسهرون الليالي ، لا شك أنهم لا يستطيعون البقاء بدون نوم ، فلا بد للجسم من النوم ، وطول السهر يحول دون ذلك ". انتهى "اللقاء الشهري" (1 / 333)
ثانياً : يستثنى من الكراهة ما إذا وجدت الحاجة للسهر
أو كانت فيه مصلحة راجحة .
لقوله صلى الله عليه وسلم : (لَا سَمَرَ إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ : لِمُصَلٍّ ،
أَوْ مُسَافِرٍ ) رواه أحمد (3907) وصححه الألباني بمجموع طرقه .
وذلك لأن المسافر قد يحتاج إلى مواصلة السفر ليلاً ، فأبيح له ذلك ، والمصلي يسمر
في طاعة الله . ويقاس على هذا : كل ما كان فيه مصلحة أو هناك حاجة داعية إليه .
قال النووي : " قَالَ الْعُلَمَاء : وَالْمَكْرُوه مِنْ الْحَدِيث بَعْد الْعِشَاء
هُوَ مَا كَانَ فِي الْأُمُور الَّتِي لَا مَصْلَحَة فِيهَا .
أَمَّا مَا فِيهِ مَصْلَحَة وَخَيْر فَلَا كَرَاهَة فِيهِ , وَذَلِكَ كَمُدَارَسَةِ
الْعِلْم , وَحِكَايَات الصَّالِحِينَ , وَمُحَادَثَة الضَّيْف ، وَالْعَرُوس
لِلتَّأْنِيسِ , وَمُحَادَثَة الرَّجُل أَهْله وَأَوْلَاده لِلْمُلَاطَفَةِ
وَالْحَاجَة , وَمُحَادَثَة الْمُسَافِرِينَ بِحِفْظِ مَتَاعهمْ أَوْ أَنْفُسهمْ ,
وَالْحَدِيث فِي الْإِصْلَاح بَيْن النَّاس ، وَالشَّفَاعَة إِلَيْهِمْ فِي خَيْر ,
وَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر , وَالْإِرْشَاد إِلَى
مَصْلَحَة وَنَحْو ذَلِكَ , فَكُلُّ هَذَا لَا كَرَاهَة فِيهِ , وَقَدْ جَاءَتْ
أَحَادِيث صَحِيحَة بِبَعْضِهِ , وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ ". انتهى " شرح صحيح
مسلم " (5/146) .
والحاصل : أن السهر بعد صلاة العشاء مكروه ، إلا لمصلحة ، أو حاجة تدعو إليه .
والله أعلم.
تعليق