الحمد لله.
أولا :
القول بأن الإيمان يزيد وينقص هو مذهب أهل السنة والجماعة ، وعقيدة الفرقة الناجية ، وعلى ذلك نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة وإطباق أهل العلم .
قال الله عز وجل : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة /124-125
قال ابن كثير رحمه الله :
" وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد " انتهى .
"تفسير ابن كثير" (4 / 239)
وروى البخاري (304) ومسلم (80) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ :
يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ . فَقُلْنَ وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ . قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ ؟ قُلْنَ بَلَى . قَالَ : فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا . أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ ؟ قُلْنَ بَلَى قَالَ : فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا .
قال النووي رحمه الله :
" فيه بيان زيادة الإيمان ونقصانه " انتهى .
وقال الإمام إسحاق بن راهويه رحمه الله : " الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، لا شك أن ذلك كما وصفنا ، وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة وآحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وهلم جرا على ذلك ، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه ، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالعراق ومالك بن أنس بالحجاز ومعمر باليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص " انتهى .
نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7 / 308) .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : " سألت أبي وأبا زرعة
عن مذاهب أهل السنة فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار فكان من مذاهبهم أن
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص " انتهى .
"العلو للعلي الغفار" (ص 188)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
والمأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف وهو مذهب أهل الحديث وهو المنسوب
إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
"مجموع الفتاوى" (7 / 505)
وقال أيضا (7 / 672) :
" أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص " انتهى .
والمنقول في ذلك عن السلف الصالح وأئمة المسلمين على مختلف العصور لا يكاد يحصى .
ثانيا :
القول بأن الإيمان ينقص من ضرورة القول بأنه يزيد ، فمتى ثبتت زيادته ثبت نقصانه
باللزوم.
سئل سفيان بن عيينة عن الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: أليس تقرأون : ( فَزَادَهُمْ
إِيمَانًا ) (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) في غير موضع ؟ قيل: فينقص؟ قال: ليس شيء يزيد
إلا وهو ينقص " رواه الآجري في "الشريعة" (2/605) رقم 240، وان بطة في "الإبانة"
(2/850) رقم 1142
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" ذَهَبَ السَّلَف إِلَى أَنَّ الْإِيمَان يَزِيد وَيَنْقُص ، صَرَّحَ بِهِ عَبْد
الرَّزَّاق فِي مُصَنَّفه عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَمَالِك بْن أَنَس
وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن جُرَيْجٍ وَمَعْمَر وَغَيْرهمْ , وَهَؤُلَاءِ فُقَهَاء
الْأَمْصَار فِي عَصْرهمْ . وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْقَاسِم اللَّالِكَائِيّ فِي
" كِتَاب السُّنَّة " عَنْ الشَّافِعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وَإِسْحَاق بْن
رَاهْوَيْةِ وَأَبِي عُبَيْد وَغَيْرهمْ مِنْ الْأَئِمَّة , وَرَوَى بِسَنَدِهِ
الصَّحِيح عَنْ الْبُخَارِيّ قَالَ : لَقِيت أَكْثَر مِنْ أَلْف رَجُل مِنْ
الْعُلَمَاء بِالْأَمْصَارِ فَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِف فِي أَنَّ
الْإِيمَان قَوْل وَعَمَل , وَيَزِيد وَيَنْقُص . وَأَطْنَبَ اِبْن أَبِي حَاتِم
وَاللَّالِكَائِيّ فِي نَقْل ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ عَنْ جَمْع كَثِير مِنْ
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَكُلّ مَنْ يَدُور عَلَيْهِ الْإِجْمَاع مِنْ
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ . وَحَكَاهُ فُضَيْل بْن عِيَاض وَوَكِيع عَنْ أَهْل
السُّنَّة وَالْجَمَاعَة ... وَبِثُبُوتِ الزيادة يَثْبُت الْمُقَابِل , فَإِنَّ
كُلّ قَابِل لِلزِّيَادَةِ قَابِل لِلنُّقْصَانِ ضَرُورَة " انتهى .
ثالثا :
ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه كان يقول - أولا - : الإيمان يزيد . وتوقف
في "إطلاق" نقصانه .
قال عبدالله بن وهب: سئل مالك بن أنس عن الإيمان ؟ فقال : قول وعمل ، قلت أيزيد
وينقص ؟ قال: قد ذكر الله سبحانه في غير آي من القرآن أن الإيمان يزيد ، فقلت له :
أينقص ؟ قال: دع الكلام في نقصانه وكف عنه. فقلت بعضه أفضل من بعض ؟ قال : نعم ".
وقال ابن القاسم : " كان مالك يقول الإيمان يزيد وتوقف عن النقصان . وقال : ذكر
الله زيادته في غير موضع . فدع الكلام في نقصانه وكف عنه " انتهى .
"ترتيب المدارك" (1 / 53) – "مجموع الفتاوى" (7 / 331)، زيادة الإيمان ونقصانه وحكم
الاستثناء فيه للدكتور عبد الرزاق البدر - ص 277
فمقصوده من ذلك رحمه الله ليس نفي النقصان ، وإنما ترك القول بالنقصان ؛ حيث لم
يبلغه النص فيه ، ولهذا أثبت التفاضل ، ثم جزم بالنقصان ، كما هو ثابت عنه من طرق
متعددة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه ؛ لأنهم
وجدوا ذكر الزيادة في القرآن ولم يجدوا ذكر النقص ، وهذا إحدى الروايتين عن مالك.
والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم : إنه يزيد وينقص. وبعضهم
عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل ، فقال: أقول : الإيمان يتفاضل
ويتفاوت ، ويروى هذا عن ابن المبارك، وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع
إلى معنى لا ريب في ثبوته" انتهى من "مجموع الفتاوى" (7 / 506).
وقال رحمه الله : " والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة
السنة ، وكان ابن المبارك يقول : هو يتفاضل ويتزايد ، ويمسك عن لفظ ينقص . وعن مالك
في كونه لا ينقص روايتان. والقرآن قد نطق بالزيادة في غير موضع ، ودلت النصوص على
نقصه كقوله: ( لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ )، ونحو ذلك،
لكن لم يعرف هذا اللفظ إلا في قوله في النساء : ( نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ ) وجعل
من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص
" انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 51).
فمالك رحمه الله توقف في " إطلاق " لفظ النقصان ،
ومأخذه في ذلك عدم التصريح به في القرآن ، وخفاء التصريح به في السنة ، وليس مأخذه
أن الإيمان شيء واحد ، إذا ذهب بعضه ذهب كله ، كما هو مأخذ أهل البدع من المرجئة
والخوارج والمعتزلة .
وقد ثبت عنه رحمه الله الرجوع عن ذلك والتصريح بالنقصان :
روى أبو بكر الخلال عن أحمد بن القاسم قال : فتذاكرنا من قال الإيمان يزيد وينقص
فعدّ [أي الإمام أحمد ] غيرَ واحد ، ثم قال : ومالك بن أنس يقول يزيد وينقص . فقلت
له : إن مالك يحكون عنه أنه قال يزيد ولا ينقص ، فقال : بلى ؛ قد روي عنه يزيد
وينقص ، كان ابن نافع يحكيه عن مالك ، فقلت له : ابن نافع حكى عن مالك ؟ قال : نعم
" انتهى من "السنة للخلال" (3/ 592) رقم 1043
وقال ابن عبد البر رحمه الله : " وقد روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان يزيد ووقف
في نقصانه . وروى عنه عبد الرزاق ، ومعمر بن عيسى ، وابن نافع ، وابن وهب أنه يزيد
وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد
لله " انتهى من "التمهيد" (9/ 252).
وقال القاضي عياض رحمه الله : " وقال غير واحد : سمعت
مالكاً يقول : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، وبعضه أفضل من بعض " انتهى من
"ترتيب المدارك" (1 / 52) وانظر : "سير أعلام النبلاء" (8 / 102)
وقال أبو مصعب – صاحب الإمام مالك ، وهو من أعلم الناس
به - : " الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، فمن قال غير هذا فهو كافر " .
"ترتيب المدارك" (1 / 188).
وقال ابن رشد ـ الجد ، الفقيه ـ رحمه الله : " وقد روي عن مالك رحمه الله أنه كان
يطلق القول بزيادة الإيمان وكف عن إطلاق نقصانه ؛ إذ لم ينص الله تعالى إلا على
زيادته ". ثم ذكر أن مالكا قال في رواية ابن نافع : " إني تدبرت هذا الأمر فما من
شيء يزيد إلا وينقص " انتهى من "المقدمات" (1/ 37).
رابعا :
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "شرح العقيدة السفارينية" (1 / 312-313) :
" هل الإيمان يزيد أو ينقص ؟
نقول : مذهب السلف يزيد وينقص ، وقال بعض العلماء من السلف : قل : يزيد ، ولا تقل :
ينقص ، وقالت المرجئة : لا يزيد ولا ينقص ، وقالت الخوارج والمعتزلة : لا يزيد ولا
ينقص
فالأقوال إذن أربعة :
1. أن تقول : يزيد وينقص .
2. أن تقول : يزيد ولا ينقص ، يعني ولا تقل : ينقص ، وهذان لأهل السنة والجماعة .
3. الثالث : لا يزيد ولا ينقص ، وهذا قول المرجئة .
4. وقول الخوارج والمعتزلة أيضاً ، لأنهم يقولون : الإيمان إما أن يوجد كله وإما أن
يعدم كله " انتهى .
وقوله رحمه الله : " وهذان لأهل السنة والجماعة " معناه أن التوقف في النقصان مروي
عن بعض أهل السنة ، كمالك والفضيل بن عياض ، وليس هو من أقوال أهل البدع ، ولا
مستنده من مستندهم ، وإنما هو قول لبعض أهل السنة ، حمل عليه الورع والتقيد بما ورد
في النصوص – بحسب ما بلغهم - ، مع إثباتهم التفاضل .
وقول سائر أهل السنة بإثبات الزيادة والنقصان هو الصواب ، لدلالة القرآن عليه تضمنا ، والسنة تصريحا ، ولكونه المنقول عن الصحابة والتابعين .
ولا ريب أن نفي الزيادة أو النقصان ليس خلافا سائغا ، بل هو من أقوال أهل البدع ، وأما التوقف في إطلاق لفظ النقص ، مع إثبات الزيادة ، والتفاضل ، فقد وقع اجتهادا من هذين الإمامين رحمهما الله ، وهو خلاف في العبارة واللفظ ، لا في الحقيقة والمعنى ، ثم ثبت عن كليهما التصريح بالنقص والحمد لله .
خامسا :
جاء في سؤالك : " وقلت في نفسي : إن لم أقل ينقص، نفيت الردة والكفر وأصبح القول
شبيهاً بقول غلاة المرجئة، فما الكفر إلا نقصان الإيمان وزواله بالكلية ".
وهذا خطأ ظاهر ، فليس الكفر واقعا من جهة نقص الإيمان وزوال أجزائه بالكلية فقط ،
كزوال عمل القلب ، أو عمل الجوارح بالكلية ، بل الكفر قول وفعل واعتقاد ، ولا ينحصر
في الترك ، فسب الله تعالى ، أو سب نبيه صلى الله عليه وسلم ، أو السجود لصنم ، أو
دعاء الأموات ، أو اعتقاد قدم العالم ، كل ذلك من الكفر ، وليس هو من باب الترك
والنقص .
والقائلون بنفي الزيادة والنقصان كمرجئة الفقهاء ، لا
ينفون الردة والكفر ، بل يبالغون في اعتبار بعض المكفرات أحيانا .
والخوارج والمعتزلة انبنى على قولهم بعدم النقصان التكفير بالكبيرة ، مع اعتبار
المكفرات الأخرى ، فلا تلازم بين هذا القول وبين نفي الكفر والردة مطلقا ، كما ظننت
.
كما أن قولك هذا قد يفهم منه أن نقص الإيمان كفر وردة
، وهذا باطل إلا إن حمل على زوال جزء من أجزائه كما سبق ، أو حمل على ترك الصلاة.
وكذلك قولك : " وقلت أيضا : إن داوم العبد المؤمن على الطاعات، ولم ينقص إيمانه
بالمعاصي ولم يخلق بالانشغال بالدنيا، أصبح إيماننا كإيمان أبى بكر بكثرة عبادتنا
من صلاة وصيام وطلب علم ودعوة إلى الله التي لا ينقصها شيء ".
هو خطأ أيضا ، ولا تصح الملازمة ، فلو كان الإيمان لا ينقص بالمعاصي ، وداوم
الإنسان على الطاعة ، لم يلزم أن يكون إيمانه كإيمان أبي بكر ، إلا على فرض
تساويهما في العمل الصالح ، ونعني به عمل القلب : يقينه ، وتصديقه ، ومحبته ،
وخشيته . وتساويهما ـ أيضا ـ في عمل الجوارح .
والمقصود هنا النصيحة لك ولغيرك ، أيها السائل الكريم ، والتنبيه على الاقتصاد في
النظر إلى الأمور ، وعدم التكلف ، وإدخال المرء نفسه فيما لا يحسنه من المباحث ، أو
تشقيق الكلام والمسائل .
ومن المهم لكل طالب علم ، وطالب نجاة أن يضبط هذه المسائل بالرجوع إلى كلام أهل
العلم ، وعدم الاعتماد على مجرد الاستنتاج والاستنباط ، فقد كان بلاء أكثر الفرق من
هذا .
وتحت هذه الجملة التي ذكرت أغلاط لم نستوف الكلام عليها ، ولا يسع المقام ذكرها .
فالزم الاقتصاد ، ودع عنك بنيات الطريق .
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد .
والله أعلم .
تعليق