الحمد لله.
وجدنا هذا الحديث يُروَى بأسانيد ثلاثة :
الإسناد الأول : يروي به الإمام الخطابي في " العزلة " (رقم/9) من طريق محمد بن يونس الكديمى ، قال حدثنا محمد بن منصور الجشمي ، قال حدثنا سلم بن سالم ، قال حدثنا السري بن يحيى ، عن الحسن ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من قرية إلى قرية ، ومن شاهق إلى شاهق ، ومن جحر إلى جحر ، كالثعلب الذي يروغ . قالوا : ومتى ذاك يا رسول الله ؟ قال : إذا لم تُنل المعيشة إلا بمعاصي الله عز وجل ، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة . قال : وكيف ذاك يا رسول الله وقد أمرتنا بالتزوج ؟ قال : لأنه إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يدي أبويه ، فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده ، فإن لم يكن له زوجة ولا ولد فعلى يدي قرابته . قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يَعَيِّرونه بضيق المعيشة ، فيتكلف ما لا يطيق حتى يورده موارد الهلكة )
وهذا إسناد ضعيف فيه علل عدة :
1- سلم بن سالم : قال فيه أحمد بن حنبل : ليس بذاك . وقال النسائي : ضعيف . وقال ابن معين : ليس بشيء . انظر : " ميزان الاعتدال " (2/185)
2- محمد بن يونس الكديمي : أحد المتروكين . انظر : " ميزان الاعتدال " (6/378)
3- محمد بن منصور الجشمي : لم نقف له على ترجمة .
وقد نص الحافظ ابن حجر على ضعفه بسبب الكديمي ، كما في " الكافي الشاف " (201)
الإسناد الثاني : يروي به الإمام أبو نعيم في " حلية
الأولياء " (1/25) من طريق عبدالله بن الحسن ، ثنا إسحاق بن وهب ، ثنا عبد الملك بن
يزيد ، ثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبدالله بن مسعود قال : إذا
أحب الله عبدا اقتناه لنفسه ، ولم يشغله بزوجة ولا ولد . وقال ابن مسعود : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا رجل يفر
بدينه من قرية إلى قرية ، ومن شاهق إلى شاهق ، ومن جحر إلى جحر ) .
وهذا إسناد ضعيف أيضا فيه علل :
1- عبد الملك بن يزيد بن فهر – كما في شيوخ إسحاق بن وهب من " تهذيب التهذيب " - :
قال فيه الحافظ الذهبي رحمه الله : أتى عن أبى عوانة بخبر باطل في ترك التزويج ، لا
يُدرَى من هو . كذا في " ميزان الاعتدال " (2/667) .
2- عبد الله بن الحسن بن نصر : ترجمته في " تاريخ بغداد " (9/437) ليس فيها جرح أو
تعديل له عن أحد من أهل العلم .
الإسناد الثالث : يروي به الإمام ابن حبان في " الثقات
" (8/211) فيقول : حدثنا محمد بن المنذر بن سعيد ، ثنا محمد بن أحمد بن حكيم
السيناني ، ثنا أبو روح العابد حاتم بن يوسف ، عن ابن المبارك ، عن المبارك بن
فضالة ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليأتين على الناس
زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من فج إلى فج ، ومن شاهق إلي شاهق )
وهذا إسناد ضعيف أيضا بسبب :
1- إرسال الحسن البصري .
2- مبارك بن فضالة : قال فيه أبو زرعة يدلس كثيرا وقال أبو داود شديد التدليس .
انظر : " تهذيب التهذيب " (10/31)
الإسناد الرابع : أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "
المسند " (2/773 من بغية الباحث)، ومن طريقه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (2/118)
قال الحارث : حدثنا عبد الرحيم بن واقد , ثنا مسعدة بن صدقة أبو الحسين , ثنا سفيان
الثوري , عن أبيه , عن الربيع بن خثيم , عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( سيأتي على الناس زمان تحل فيه العزبة , ولا يسلم لذي دين
دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق ، أو من جحر إلى جحر ، كالطائر يفر بفراخه
وكالثعلب بأشباله , ثم قال : ما أتقاه في ذلك الزمان راع أقام الصلاة بعلم ، يقيم
الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل الناس إلا من خير , ولمائة شاة عفراء أرعاها بسلع أحب
إلي من ملك بني النضير , وذلك إذا كان كذا وكذا )
وهذا إسناد ضعيف جدا أيضا بسبب مسعدة بن صدقة ، قال فيه الدارقطني : متروك . انظر :
" ميزان الاعتدال " (4/98).
لذلك قال عنه أبو نعيم : " غريب " انتهى.
الإسناد الخامس : رواه البيهقي في " الزهد الكبير "
(ص/183) من طريق جامع بن سودة ، ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، ثنا المبارك بن
فضالة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من هرب بدينه من شاهق إلى
شاهق ، ومن جحر إلى جحر، فإذا كان ذلك الزمان لم تنل المعيشة إلا بسخط الله ، فإذا
كان ذلك كذلك كان هلاك الرجل على يدي زوجته وولده ، فإن لم يكن له زوجة ولا ولد كان
هلاكه على يدي أبويه ، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي قرابته أو الجيران .
قالوا : كيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ، فعند ذلك يورد نفسه
الموارد التي تهلك فيها نفسه )
وهذا إسناد ضعيف أيضا ، فيه جامع بن سوادة : ضعيف يروي أخبارا باطلة ، كما في "
لسان الميزان " (2/93)، وفيه أيضا تدليس المبارك بن فضالة والحسن البصري .
والحاصل :
أن الحديث ضعيف جدا من جميع طرقه ، لا يقوي بعضها بعضا ، فضلا عن أن الحديث يدعو
إلى الترهب والعزوف عن الزواج ، وهذا معنى غريب بل منكر في الشريعة ، ليس له شاهد
في السنة الصحيحة ، بل الشواهد المتكاثرة على عكسه .
لذلك عقد ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " (2/278) بابا بعنوان : " باب التعزب "،
أورد فيه هذا الحديث وغيره ، دلالة على نكارة ورود هذا المعنى في الشريعة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ليس معروفا عن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من " مجموع الفتاوى " (18/383)
وحكم الإمام الذهبي على الخبر بالبطلان – كما سبق نقله - ، وضعف الحديث الحافظ
العراقي في " المغني عن حمل الأسفار " (2/24)
وقال الحافظ السخاوي رحمه الله :
" في معناه أحاديث كثيرة كلها واهية " انتهى من " المقاصد الحسنة " (ص/329)
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
" منكر " انتهى من " السلسلة الضعيفة " (رقم/3270)، وتجد فيها تضعيف أكثر الطرق
المذكورة في هذا الجواب أيضا .
أما موضوع العزلة ، والحديث عن المفاضلة بينها وبين
الاختلاط بالناس : فقد سبق الجواب عليه في موقعنا في الفتوى رقم : (13835)
والله أعلم .
تعليق