الحمد لله.
أولاً :
الآثار الواردة في فتنة الموتى في قبورهم سبعة أيام هي - فيما وقفنا عليه - ثلاثة :
الأثر الأول : عن طاوس اليماني رحمه الله (المتوفى سنة 101هـ) قال :
" إِنَّ الْمَوْتَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ سَبْعًا ، فَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْأَيَّامِ "
رواه الإمام أحمد بن حنبل في " الزهد " – كما عزاه الحافظ ابن حجر في " المطالب العالية " (5/330)، والسيوطي في " الحاوي للفتاوي " (2/216) ولكني لم أجده في النسخة المطبوعة – ورواه من طريق الإمام أحمد الحافظ أبو نعيم في " حلية الأولياء " (4/11)، وذلك من طريق هاشم بن القاسم ، ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، قال : قال طاوس فذكره .
وهذا إسناد صحيح إلى طاوس ، الأشجعي هو عبيد الله بن عبيد الرحمن (بالتصغير في الاسم واسم الأب)، ثقة مأمون ، كما في " تهذيب التهذيب " (7/35)، وسفيان هو الثوري ، الإمام الحافظ المشهور .
يقول الإمام السيوطي رحمه الله :
" رجال الإسناد رجال الصحيح ، وطاوس من كبار التابعين ، قال أبو نعيم في الحلية : هو أول الطبقة من أهل اليمن ، وروى أبو نعيم عنه أنه قال: أدركت خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وسفيان هو الثوري ، وقد أدرك طاوسا ، فإن وفاة طاوس سنة بضع عشرة ومائة في أحد الأقوال ، ومولد سفيان سنة سبع وتسعين ، إلا أن أكثر روايته عنه بواسطة " انتهى من " الحاوي " (2/216)
الأثر الثاني : عن عبيد بن عمير بن قتادة الليثي رحمه
الله ( المتوفى سنة 68هـ) قال :
" يفتن رجلان مؤمن ومنافق ، فأما المؤمن فيفتن سبعا ، وأما المنافق فيفتن أربعين
صباحا "
رواه ابن جريج في " المصنف " عن الحارث بن أبي الحارث ، عن عبيد بن عمير – كذا قال
السيوطي في " الحاوي " (2/216) -.
الحارث بن أبي الحارث لم نعرف من هو في هذا الإسناد ، فإن كان هو الحارث بن عبد
الرحمن بن أبي ذياب الدوسي – كما قال السيوطي في " الحاوي " (2/216) – ففيه كلام ،
لأن أبا حاتم قال فيه : ليس بقوي ، ووثقه ابن حبان ، وقال أبو زرعة : ليس به بأس .
وأما عبيد بن عمير فأكثر الحفاظ على أنه من التابعين ، وليس من الصحابة ، إذ لم
تثبت له رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم . ينظر ترجمته في " تهذيب التهذيب " (7/71)
قال العجلي رحمه الله :
" من كبار التابعين " انتهى من " الثقات " (321)
ويقول ابن عبد البر رحمه الله :
" ذكر البخاري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره مسلم بن الحجاج فيمن ولد
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معدود في كبار التابعين " انتهى من "
الاستيعاب " (3/1018)، وانظر " الإصابة " (5/47)
والخلاصة أن الأثر من مراسيل عبيد بن عمير ، وفي الإسناد إليه مقال .
الأثر الثالث : عن مجاهد بن جبر رحمه الله (المتوفى
سنة 101هـ-104هـ) قال :
" إن الموتى كانوا يفتنون في قبورهم سبعاً ، فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك
الأيام "
عزاه الحافظ ابن رجب في " أهوال القبور " (ص/16) إلى مجاهد من غير ذكر مصدره ، ولم
نجده مسنداً ، وكذلك قال السيوطي رحمه الله : " لم أَقف على سَنَده " انتهى من "
الديباج شرح صحيح مسلم " (2/491)
ثانيا :
احتج بعض العلماء بهذه الآثار على أن مدة فتنة المؤمنين في قبورهم سبعة أيام ، حتى
ألف الإمام السيوطي رحمه الله في ذلك رسالة صغيرة بعنون " الثريا في إظهار ما كان
خفيا "، يتلخص تقريره للدليل في وجهين :
الوجه الأول : أنها مراسيل عدة تتقوى باجتماعها .
الوجه الثاني : أنها تتعلق بأمور الآخرة والغيب التي ليس للعقل فيها مجال ، فتأخذ
حكم المرفوع ويحتج بها .
يقول السيوطي رحمه الله :
" المقرر في فن الحديث والأصول أن ما روي مما لا مجال للرأي فيه كأمور البرزخ
والآخرة فإن حكمه الرفع لا الوقف ، وإن لم يصرح الراوي بنسبته إلى النبي صلى الله
عليه وسلم " انتهى من " الحاوي " (2/217)
ثم أطال النقول عن المحدثين في تقرير هذه القاعدة ، ثم قال :
" هذا كله إذا صدر ذلك من الصحابي ، فيكون مرفوعا متصلا .
فإن صدر ذلك من التابعي فهو مرفوع مرسل ، كما ذكر ابن الصلاح ذلك في نظير المسألة ،
وصرح البيهقي في هذه المسألة بخصوصها ، فإنه أخرج في شعب الإيمان بسنده عن أبي
قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب .
ثم قال : هذا القول عن أبي قلابة ، وهو من التابعين ، فمثله لا يقول ذلك إلا عن
بلاغ ممن فوقه عمن يأتيه الوحي .
وروى الإمام مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول : إن المصلي ليصلي
الصلاة وما فاته وقتها ، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله .
قال ابن عبد البر : هذا له حكم المرفوع ؛ إذ يستحيل أن يكون مثله رأيا ، ويحيى بن
سعيد من صغار التابعين .
وهذا الأثر الذي نحن فيه من ذلك ، فإنه من أحوال البرزخ التي لا مدخل للرأي
والاجتهاد فيها ، ولا طريق إلى معرفتها إلا بالتوقيف والبلاغ عمن يأتيه الوحي ، وقد
قال ذلك عبيد بن عمير وطاوس ، وهما من كبار التابعين ، فيكون حكمه حكم الحديث
المرفوع المرسل ، وإن ثبتت صحبة عبيد بن عمير فحكمه حكم المرفوع المتصل....
وبالجملة فالحكم على مثل هذا بالرفع من الأمور التي أجمع عليها أهل الحديث .
إذا تقرر أن أثر طاوس حكمه حكم الحديث المرفوع المرسل ، وإسناده إلى التابعي صحيح ،
كان حجة عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد مطلقا من غير شرط ، وأما عند
الإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه يحتج بالمرسل إذا اعتضد بأحد أمور مقررة في محلها
، منها مجيء آخر أو صحابي يوافقه ، والاعتضاد هاهنا موجود ، فإنه روي مثله عن مجاهد
، وعن عبيد بن عمير ، وهما تابعيان إن لم يكن عبيد صحابيا ، فهذان مرسلان آخران
يعضدان المرسل الأول .
إن قال قائل : لم يرد في سائر الأحاديث تصريح بذكر سبعة أيام .
قلنا : ولا ورد فيها تصريح بنفيها ، ولا تعرض لكون الفتنة مرة أو أكثر ، بل هي
مطلقة صادقة بالمرة وبأكثر ، فإذا ورد ذكر السبعة من طريق مقبول وجب قبوله ، وكان
عند أهل الحديث من باب زيادات الثقات المقبولة ، وعند أهل الأصول من باب حمل المطلق
على المقيد .
إن قيل : فما الحكمة في هذا العدد بخصوصه ؟
فالجواب : أن السبع والثلاث لهما نظر في الشرع...فلما كانت هذه الفتنة أشد فتنة
تعرض على المؤمن جعل تكريرها سبعا ؛ لأنه أشد نوعي التكرير وأبلغه " انتهى باختصار
من " الحاوي " (2/220-222)
وكذلك يقول الإمام السفاريني رحمه الله – مصححاً إسناد أثر طاوس -:
" إسناد صحيح إلا أنه مرسل ، وروي من وجه متصل أيضاً ، وحكمه الرفع لأنه ليس للرأي
فيه مجال " انتهى من " لوامع الأنوار البهية " (2/9)
ثالثا :
ونحن نقول إن تقرير الإمام السيوطي رحمه الله قد يعتريه الضعف من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن أثر طاوس اليماني رحمه الله هو الذي يسلم إسناده فقط ، أما ما روي
عن عبيد بن عمير ففي إسناده ضعف ، وأثر مجاهد لم نقف له على أصل ، لذلك لا يبقى سوى
ما ورد عن طاوس ، وبهذا تفقد الآثار قوتها الجمعية .
الوجه الثاني : إذا خالف الأثر ظاهر الأحاديث النبوية الصحيحة ، فالأصوب أن نجعل
الأحاديث قاضية عليه ، لا أن نمنحه حكم الرفع والحجية ؛ ذلك أن الأحاديث الكثيرة
الواردة في بيان فتنة القبر وسؤال الملائكة ظاهرة الدلالة على أن ذلك يقع مرة واحدة
، ولا يستغرق ذلك سبعة أيام ، أو لا يتكرر سبع مرات ، وأشهرها حديث البراء بن عازب
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم – في وصف فتنة المؤمن في قبره - : (
يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ
: رَبِّيَ اللَّهُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : دِينِيَ
الْإِسْلَامُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟
قَالَ : فَيَقُولُ : هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَيَقُولَانِ : وَمَا يُدْرِيكَ ؟ فَيَقُولُ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ
بِهِ وَصَدَّقْتُ ) رواه أبو داود (4753) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود "
وهكذا أيضا أحاديث كثيرة في وصف فتنة القبر ؛ ليس فيها أي دلالة من قريب أو بعيد
على دوام ذلك سبعة أيام كاملة للمؤمن ، وأربعين للمنافق .
ولهذا فإن إعمال قاعدة " حكم الرفع لآثار الصحابة والتابعين " لا يبدو له وجه قوي
في هذا المحل ، بل الأولى والأصوب السكوت حيث سكتت السنة ، والإيمان حيث نطقت وصرحت
.
الوجه الثالث : أننا لم نجد في كتب الفقهاء المعتمدة
ما ينص على استحباب الإطعام عن الميت سبعة أيام متوالية ، كما لم نقف على من يقرر
ما قرره السيوطي لدى أحد من أهل العلم ، مما يبعث في النفس التردد البالغ من تقريره
.
رابعا :
ثم على فرض الأخذ بما قرره السيوطي ، فإنه رحمه الله لم يقرر ذلك على وجه الجزم
واليقين إلى درجة الإنكار على المخالف ، أو الحكم بالذنب والتقصير إذا لم يتم
الإطعام عن الميت سبعة أيام كاملة ، وإنما يرجح استحبابه على وجه الاستئناس
والتفضيل لمن وجد السعة والإعانة على ذلك ، أما أن يصبح الإطعام سبعة أيام عادة يشق
بها أهل المتوفى على أنفسهم ، ويتعرضون للانتقاد من الناس إذا لم يفعلوا ذلك : فلا
نعرف أحدا من العلماء يقبل ذلك فيما اطلعنا .
والله أعلم .
تعليق