الحمد لله.
أولا :
ينبغي أن يعلم العبد أن دينه أعظم وأجل شأنا من أن يغرر به ، ويجعله غرضا للخصومات ، والشبهات ، والمحاورات والمجادلات .
وإذا كان العقلاء يعلمون أن طالبا صغيرا ، لو بدأ بدراسة شيء من العلوم الصحية : لا يصلح أن يتصدى لمقام علاج أبدان الناس ، ودفع الآفات والأمراض عنهم ، ووقايتهم من خطر الأمراض المتنقلة والمعدية ، حتى يتم له مقام العلم بالطب ، وطرق العلاج ؛ فأولى بذلك الشاب الصغير : ألا يعرض نفسه لذلك المقام ، حتى يحصل من العلم الشرعي ما يؤهله لذلك المقام ، ويعينه على دفع ما يرد عليه من الشبهات والآفات ، وعلاج ما يقابله من الأمراض ؛ وأما دون ذلك ، فإنه على خطر عظيم ، وقد غرر بدينه ، وكم ممن عرض نفسه لذلك المقام ، ووثق بعقله أول الأمر ، حتى كان فيه هلكته ، وفساد دينه ، والعياذ بالله ؛ فالنية الصالحة ، والرغبة الصادقة لا تغني وحدها في ذلك المقام .
ونحن لا نشك في أن سنك الذي ذكرت ، لا يؤهلك لهذا المقام ، ولا يمكن أن تكون حصلت من العلوم الشرعية في تلك السن ، ما يؤهلك لمقام مجادلة الملحدين ، ومحاورتهم ، وها أنت قد رأيت ، كيف أن شبهة تافهة ، كهذه التي ذكرت ، قد حيرتك ، وأوقعت في قلبك الشغل والبلبال ؟!
ثانيا :
قول القائل : " لماذا لم تأت قاعدة الناسخ والمنسوخ إلا بعد ما اكتشف المفسرون أن القرآن يغير أحكامه ؟ "
قول يدل على قلة العلم والزهد فيه ؛ فإن النسخ في كتاب الله معروف بنص الكتاب المجيد ، كما في قوله تعالى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) البقرة/ 106 .
قال ابن جرير رحمه الله :
" يعني جل ثناؤه بقوله : (ما ننسخ من آية) : ما ننقل من حكم آية ، إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام حلالا والمباح محظورا ، والمحظور مباحا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي ، والحظر والإطلاق ، والمنع والإباحة. فأما الأخبار ، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ .
وأصل " النسخ " من" نسخ الكتاب "، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها ، فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها " .
انتهى من " تفسير الطبري " (2 /471-472) .
والنسخ إنما يكون لحكمة ، فقد يكون للتخفيف على المسلمين ، وقد يكون للتكثير من الأجور ، وقد يكون للتدرج في التشريع ، وقد يكون للتثبيت على الإيمان ، أو لتمييز أهل الحق من أهل الباطل ، فإنه لما نسخت القبلة قال الذين في قلوبهم مرض والكافرون : ( مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) البقرة/ 142 ، أما المؤمنون فأجابوا بالسمع والطاعة ، فتميز أهل الإيمان من أهل الكفر والزيغ .
ففرق عظيم بين من يعرف حكمة النسخ في دين الله ، وبين من يتخذ من هذا التشريع تشكيكا في الدين وطعنا .
وقد أشارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى شيء من حكمة النسخ في كتاب الله ، وما فيه من سياسة النفوس ، ومراعاة لطبائع البشر .
روى البخاري في صحيحه (4993) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ : لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ ، لَقَالُوا : لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا ، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا ، لَقَالُوا : لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا ) .
قال الزرقاني رحمه الله :
" وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهدها بما يرقيها ويمحصها ، وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته كانت تعاني فترة انتقال شاق ، بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعاداتها ، خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شوفهوا بالإسلام من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم ، فلو أُخِذوا بهذا الدين الجديد مرة واحدة ، لأدى ذلك إلى نقيض المقصود ، ومات الإسلام في مهده ، ولم يجد أنصارا يعتنقونه ويدافعون عنه ، لأن الطفرة من نوع المستحيل الذي لا يطيقه الإنسان ، من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل ، متألفة لهم ، متلطفة في دعوتهم ، متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا ، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا ، منتهزة فرصة الإلف والمِران ، والأحداث الجادة عليهم ، لتسير بهم من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، حتى تم الأمر ، ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به ونهضة البشرية بسببه.
تلك الحكمة على هذا الوجه : تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من المنسوخ كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية ، بالأمس وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد ، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية ، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة ، بل على أنها أمارة القوة ، ومظهر الفتوة ، وعنوان الشهامة ؛ فقل لي بربك : هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها …
أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه : فالتخفيف على الناس ، ترفيها عنهم ، وإظهارا لفضل الله عليهم ، ورحمته بهم ، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده ، وتحبيب لهم فيه وفي دينه .
وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته : فالابتلاء والاختبار ، ليظهر المؤمن فيفوز ، والمنافق فيهلك ، ليميز الخبيث من الطيب.
أما حكمة بقاء التلاوة ، مع نسخ الحكم : فتسجل تلك الظاهرة الحكيمة ظاهرة سياسة الإسلام للناس ، حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق ، وأن نبيه نبي الصدق ، وأن الله هو الحق المبين ، العليم الحكيم ، الرحمن الرحيم .
يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة ، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة ، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها".انتهى من "مناهل العرفان" (2/ 195-196) .
وينظر جواب السؤال رقم : (105746) .
ثم إنه لما انتشر الإسلام ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وفتحت الأمصار ، احتاج العلماء إلى تصنيف العلم وتبويبه وتعريفه للناس ، فصنفوا في الأبواب ، وكتبوا في سائر العلوم ، ومن ذلك معرفة الناسخ والمنسوخ ، فظن من لا علم له بتاريخ العلوم ، وطبائع الأمور : أن الناس لم يعرفوا النسخ إلا يومئذ ، فقال ما قال ؛ وفيما تقدم دليل بطلانه .
ثالثا :
قول السائل : " هل هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلل فيه عدم سماع المسلمين صوت الأذان أن ذلك من ضراط الشيطان ؟ "
فهذا سؤال لا وجه له ، فالمسلمون كلهم يسمعون الأذان ، وإنما الصحيح أن الشيطان إذا سمع صوت المؤذن بالأذان للصلاة أدبر هاربا وله ضراط :
روى البخاري (608) ومسلم (389) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ ، وَلَهُ ضُرَاطٌ ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ أَقْبَلَ ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى ) .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" في الحديث : دليل على فضل الأذان ، وأنه يطرد الشيطان حتى يدبر عنده وله ضراط ، بحيث لا يسمع التأذين .
والأذان والإقامة في هذا سواء .
وضراط الشيطان ، محمول على ظاهره عند كثير من العلماء ، ومنهم من تأوله، ولا حاجة إلى ذلك " انتهى من"فتح الباري" لابن رجب (5/ 215) ، وينظر : "فتح الباري" لابن حجر (2/ 85) .
وقال ابن رجب :
" وقد قيل في سر ذلك : إن المؤذن لا يسمعه جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة، فيهرب الشيطان من سماع الأذان ويضرط ؛ حتى يمنعه ضراطه من استماعه ، حتى لا يكلف الشهادة به يوم القيامة " انتهى من "فتح الباري" لابن رجب (5/ 216) .
يشير إلى ما رواه البخاري (609) عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ) .
راجع للفائدة إجابة السؤال رقم :(186757) .
والله أعلم .
تعليق