الحمد لله.
لا ينبغي أن يختلف الناس في القواعد العقلية البدهية ، التي تنطلق منها مبادئ التفكير وأحكام العقل ، كقاعدة أن الفعل يدل على الفاعل ، والأثر يدل على المسير ، وأن الخلق يدل على الخالق والصانع . وذلك من رحمة الله تعالى بالإنسان ، أن ركز في قرارة نفسه وفطرته الاستدلال بآيات الكون العظيمة ، وعجيب المخلوقات على القوة القادرة الغيبية التي كانت السبب وراء ذلك كله ، والقرآن الكريم مليء بتقرير دلائل الآفاق على الله عز وجل ، كما قال سبحانه : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فصلت/53. وقال عز وجل : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ . وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ . أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل10-18.
ولكن دلائل الكون والآفاق إنما تقوى على إرشاد الإنسان إلى طريق الهداية العامة ، التي يتجه فيها إلى خالق هذا الكون ومدبره ، لكنه يبقى عاجزا عن تلمس منهاج الحياة المفصل الذي يجب عليه سلوكه ليعمر هذا الكون وفق مراد الله عز وجل .
لذلك كان لا بد من إرسال الرسل وإنزال الكتب ، وكان الثواب والعقاب في العقيدة الإسلامية منوطين ببلوغ دعوة الرسول على الوجه الذي تقام به الحجة ، وتتضح به المحجة ، ولا يحجز قلب السامع عن الإيمان إلا كبر أو هوى أو عناد ، وذلك من رحمة الله تعالى وعدله في الخلق، فلا يحل غضب الرب سبحانه وتعالى على قوم لم تبلغهم دعوة نبي ، ولم تقم عليهم حجة الله في قلوبهم وعقولهم ، ولا يحل سخط الجبار على من بلغته الدعوة محرفة مشوهة ، على وجه لا تقوم به الحجة ، ولا ينقطع به العذر. وذلك من رحمة الله تعالى بالبشر ، وعدله المطلق الذي أوجبه على نفسه ، ووصفه نبيه بأنه أحب إليه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( وَلاَ أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ المُبَشِّرِينَ وَالمُنْذِرِينَ ) رواه البخاري (7416) ومسلم (1499).
يقول ابن القيم رحمه الله :
" فهو يحب أن يُعذَر على عقاب المجرمين المخالفين لكتبه ورسله ، ولا يلام على ذلك ، ولا يذم عليه ، ولا ينسب فيه إلى جور ولا ظلم ، كما يحب أن يُحمد على إحسانه وإنعامه وأياديه عند أوليائه وأهل كرامته . وحمده متضمن هذا وهذا ، فهو محمود على عدله في أعدائه وإحسانه إلى أوليائه ، كما قال تعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الزمر/75 ، فأخبر عن حمد الكون أجمعه له عقيب قضائه بالحق بين الخلائق ، وإدخال هؤلاء إلى جنته وهؤلاء إلى ناره ، وحذف فاعل الحمد إرادة لعمومه وإطلاقه ، حتى لا يسمع إلا حامد له من أوليائه وأعدائه ، كما قال الحسن البصري : لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ، ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا ، وهو سبحانه قد أعذر إلى عباده ، وأقام عليهم الحجة " انتهى من " الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة " (4/1496).
والعقل الإنساني قاصر عن بلوغ اليقين في الاستدلال على عالم الغيب كله ، فكيف إذا عصفت به الشبهات والأهواء ومكر شياطين الإنس والجن ، فلا شك أنه حينئذ أعجز عن بلوغ الطمأنينة التي يبحث عنها . وإن كان لله عز وجل في كل شيء من الكون آية تدل عليه ، لكن هذه الدلالة غير كافية لاستحقاق العذاب والغضب في حال النكول وترك الإيمان ، ولذلك قال الله عز وجل : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/15. وقال عز وجل : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ) الحجر/4. وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) النحل/113. ولهذا أيضا نفى الله عز وجل عن نفسه الظلم بأنه لا يعذب إلا من كفر بالحجة التي بانت له ، فقال تعالى : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ) الشعراء/208-209. وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) القصص/59. وقال عز وجل : ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء/165. وغيرها الكثير من الآيات التي تقرر هذه الحقيقة بما لا يدع مجالا للشك أو التردد .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إبلاغ الرسالة ، فمن لم تبلغه جملة : لم يعذبه رأسا ، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل : لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية..
فمن كان قد آمن بالله ورسوله ، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول فلم يؤمن به تفصيلا؛ إما أنه لم يسمعه ، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها ، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به = فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه ، وما لم يؤمن به : فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها " انتهى باختصار من " مجموع الفتاوى " (12/493-494).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَهُنَا أَصْلٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ ، وَهُوَ : أَنَّهُ قَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ إِلَّا مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ :
قَالَ - تَعَالَى -: ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) [الإسراء: 13 - 15] ... وَقَالَ: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [الزمر: 71] وَقَالَ - تَعَالَى -: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام: 130] وَقَالَ - تَعَالَى -: ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) [القصص: 59] ...
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا تَقُومُ بِالْقُرْآنِ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ ، كَقَوْلِهِ: ( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) [الأنعام: 19] .
فَمَنْ بَلَغَهُ بَعْضُ الْقُرْآنِ دُونَ بَعْضٍ : قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِمَا بَلَغَهُ ، دُونَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ .
فَإِذَا اشْتَبَهَ مَعْنَى بَعْضِ الْآيَاتِ ، وَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ : وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
فَإِذَا اجْتَهَدَ النَّاسُ فِي فَهْمِ مَا أَرَادَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : فَالْمُصِيبُ لَهُ أَجْرَانِ ، وَالْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ .
فَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا ؛ فَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ جَمِيعُ نُصُوصِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا : لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ إِلَّا بِمَا بَلَغَهُ ، وَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ مِنْهُ ، فَاجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَتِهِ : فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ، وَخَطَؤه مَحْطُوطٌ عَنْهُ .
فَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ تَحْرِيفَ الْكِتَابِ ، لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ ، وَعَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ، فَعَانَدَهُ : فَهَذَا مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّطَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ ، مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ ، مُشْتَغِلًا عَنْ ذَلِكَ بِدُنْيَاهُ .
وَعَلَى هَذَا :
فَإِذَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدْ حَرَّفُوا بَعْضَ الْكِتَابِ ، وَفِيهِمْ آخَرُونَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ ، فَهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : لَمْ يَجِبْ أَنْ يُجْعَلَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُسْتَوْجِبِينَ لِلْوَعِيدِ .
وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ ، بَلْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ ، أَوْ بَعْضُ مَعَانِيهِ ، فَاجْتَهَدَ : لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ، وَقَدْ تُحْمَلُ أَخْبَارُ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ تُبَّعٍ ، وَالَّذِينَ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، كَابْنِ التَّيِّهَانِ وَغَيْرِهِ ، عَلَى هَذَا ؛ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِلْمَسِيحِ تَكْذِيبَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْيَهُودِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ : هَلْ يُمْكِنُ مَعَ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ ، أَنْ لَا يُبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ صِدْقُ الرَّسُولِ ، أَمْ لَا ؟
وَإِذَا لَمْ يتبينْ لَهُ ذَلِكَ : هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا ؟ .
وَتَنَازَعَ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمُقَلِّدِ مِنْهُمْ أَيْضًا .
وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ خَطَأِ الْمُخَالِفِ لِلْحَقِّ وَضَلَالِهِ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ ، وَقَدْ يُعْرَفُ الْخَطَأُ فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ ، وَغَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ.
وَالْمَقَامُ الثَّانِي: الْكَلَامُ فِي كُفْرِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمُ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ.
فَهَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلنَّاسِ ، مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ ، مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، لَهُمُ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ :
قِيلَ: إنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ ، وَإِنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِ رَسُولٌ ، لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَقُولُ بِالْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ ، مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ ، مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَقِيلَ: لَا حُجَّةَ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ مَنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ ، لَا بِالشَّرْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْذِيبَ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَجَانِينِهِمْ . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ، كَالْجَهْمِ وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَعَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ : أنَّهُ لَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الرِّسَالَةُ ، وَلَا يُعَذَّبُ إِلَّا مَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ قَالَ - تَعَالَى - لِإِبْلِيسَ - : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 85]
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَنَحْنُ فِيمَا نُنَاظِرُ فِيهِ أَهْلَ الْكِتَابِ: مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ :
تَارَةً نَتَكَلَّمُ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ بَيَانُ مُخَالَفَتِهِمْ لِلْحَقِّ ، وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ، فَهَذَا تَنْبِيهٌ لِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ .
وَتَارَةً نُبَيِّنُ كُفْرَهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَهَذَا أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لَا يُتَكَلَّمُ فِيهِ إِلَّا بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ .
كَمَا أَنَّا أَيْضًا لَا نَشْهَدُ بِالْإِيمَانِ وَالْجَنَّةِ ، إِلَّا لِمَنْ شَهِدَتْ لَهُ الرُّسُلُ .
وَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فِي الدُّنْيَا بِالرِّسَالَةِ ، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتَرَاتِ : فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَقْوَالٌ ؛ أَظْهَرُهَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ : أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَتِهِ، فَإِنْ أَطَاعُوهُ اسْتَحَقُّوا الثَّوَابَ ، وَإِنْ عَصَوْهُ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ."
انتهى ، باختصار، من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/291-298) .
ويقول ابن القيم رحمه الله :
" لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال ، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه ، والقسمان واقعان في الوجود .
فالمتمكن المعرض مفرط ، تارك للواجب عليه ، لا عذر له عند الله .
وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه ، فهم قسمان أيضاً :
أحدهما : مريد للهدى ، مؤثر له ، محب له ، غير قادر عليه ، ولا على طلبه ؛ لعدم من يرشده ، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ، ومن لم تبلغه الدعوة .
الثاني : معرض لا إرادة له ، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه .
فالأول يقول : يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ، ولا أقدر على غيره ، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي .
والثاني : راض بما هو عليه ، لا يؤثر غيره عليه ، ولا تطلب نفسه سواه ، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته ، وكلاهما عاجز ، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق ؛ فالأَول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به ، فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزاً وجهلاً ، والثاني كمن لم يطلبه ، بل مات في شركه ، وإن كان لو طلبه لعجز عنه ، ففرق بين عجز الطالب ، وعجز المعرض .
فتأمل هذا الموضع ، والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق . وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا ؟ فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه ، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر ، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول ؛ هذا في الجملة ، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه .
هذا في أحكام الثواب والعقاب .
وأما في أحكام الدنيا : فهي جارية مع ظاهر الأمر . وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة؛ وهو مبني على أربعة أُصول :
أحدها : أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه ... – فذكر الأدلة السابقة من القرآن الكريم ، ثم قال - :
والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول ، أو تمكن من معرفته .
وأما من لم يكن عنده من الرسول خبر أصلاً ، ولا تمكن من معرفته بوجه ، وعجز عن ذلك ، فكيف يقال إنه ظالم .
الأصل الثاني : أن العذاب يُستحق بسببين :
أحدهما : الإعراض عن الحجة ، وعدم إرادة العلم بها وبموجبها .
الثاني : العناد لها بعد قيامها ، وترك إرادة موجبها .
فالأول كفر إعراض ، والثاني كفر عناد .
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة ، وعدم التمكن من معرفتها ، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل .
الأصل الثالث : أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان ، وفي بقعة وناحية دون أُخرى ، كما أنها تقوم على شخص دون آخر ، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون ، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له . فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً ، ولا يتمكن من الفهم ، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة .
الأصل الرابع : أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه ، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة " انتهى باختصار من " طريق الهجرتين " (ص/412-414).
والخلاصة من جميع ما سبق أن الإسلام يقرر بكل وضوح رحمة الله الغالبة ، وأنه عز وجل لا يعذب من لم تقم عليه الحجة الرسالية ، ولا يعذب من لم تنبعث في قلبه أنوار الهداية بسبب الجهل أو البعد أو التشويه ، وإنما يعذب الجاحد المعاند الظالم الذي بلغته الدعوة ، وتحديد من أقيمت عليه الحجة مِن الأمر الذي تفرد به الله جل جلاله ، و" لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه " على حد تعبير العلامة ابن القيم رحمه الله .
فإذا كان بعض منظري المسيحية يؤمنون بانعدام أي حجة لمن لا يؤمن بديانتهم ، اعتمادا على ما جاء في " رسالة بولس إلى أهل رومية " (1/18-20): " لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم ، الذين يحجزون الحق بالإثم . إذ معرفة الله ظاهرة فيهم ؛ لأن الله أظهرها لهم ؛ لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات ، قدرته السرمدية ولاهوته ، حتى إنهم بلا عذر "
فقد سبق في كلام علماء الإسلام أن ثمة موانع كثيرة من تعذيب الخلق يوم القيامة ، والأعذار عند الله جل وعلا لا شأن للعباد بتضييقها .
ولكن من بلغته الدعوة ، وفَهِم الحجة ، ولم يؤمن بها ، فعقيدتنا تقرر أنه كافر مخلد في نار جهنم ، كما قال عليه الصلاة والسلام : ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) رواه مسلم (153) .
يقول أبو العباس القرطبي رحمه الله :
" فيه دليل على أن من لم تبلغه دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أمره ، لا عقاب عليه ولا مؤاخذة ، وهذا كقوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ). ومن لم تبلغه دعوة الرسول ولا معجزته ، فكأنه لم يبعث إليه رسول " انتهى من " المفهم " (1/368).
وانظر جواب السؤال رقم : (14055) ، (26745) ، (189207).
والله أعلم .
تعليق