الحمد لله.
أولا :
نزل القرآن بلسان عربي مبين ، وفيه من تفانين البلاغة ، وبراعة الأساليب ، وطرائق العرب في كلامها : ما يوجب فهمه وفق ذلك ، فيتعرف القارئ والمتأول : طرائق العرب في كلامها ، ومعاني مفردات ، ودلالات أساليبها ، قبل أن يقضي على في معنى القرآن بشيء من ذلك .
قال سيبويه رحمه الله :
" العباد إنَّما كُلّموا بكلامهم ، وجاء القرآنُ على لغتهم وعلى ما يَعنون" .
انتهى من " الكتاب " (1/331) .
وقد عقد شيخ المفسرين ، ابن جرير الطبري ، في مقدمة تفسيره ، فصلا مهما في تقرير ذلك المعنى ، عنونه بقوله :
" القولُ في البيانِ عن اتفاق معاني آي القرآن ، ومعاني منطِق مَنْ نزل بلسانه القرآن من وَجْه البيان - والدّلالة على أن ذلك من الله تعالى ذكره هو الحكمة البالغة - مع الإبانةِ عن فضْل المعنَى الذي به بَايَن القرآنُ سائرَ الكلام .." .
ينظر : "تفسير الطبري" (1/8) وما بعدها .
وقال الشاطبي رحمه الله :
" الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ ، وَالسُّنَّةُ عَرَبِيَّةٌ ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَعْجَمِيَّةٍ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا يَشْتَمِلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَرَبِيٌّ ، بِحَيْثُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا التَّحْقِيقَ : سُلِكَ بِهِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ ، مَسْلَكَ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي تَقْرِيرِ مَعَانِيهَا ، وَمَنَازِعِهَا فِي أنواع مخاطباتها خاصة ؛ فإن كثيرا مِنَ النَّاسِ يَأْخُذُونَ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ مَا يُعْطِيهِ الْعَقْلُ فِيهَا ، لَا بِحَسَبِ مَا يُفهم مِنْ طَرِيقِ الْوَضْعِ ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَخُرُوجٌ عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ " انتهى من " الموافقات " (1/39) .
ثانيا :
قول الله تعالى في وصف كتابه العزيز : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد ٍ) فصلت/ 41-42
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ) أي : يجحدون القرآن الكريم المذكر
للعباد جميع مصالحهم الدينية والدنيوية والأخروية ، المُعلي لقدر من اتبعه ، (
لَمَّا جَاءَهُم ) نعمة من ربهم على يد أفضل الخلق وأكملهم . (و) الحال ( إِنَّهُ
لَكِتَابٌ ) جامع لأوصاف الكمال ( عَزِيزٌ ) أي : منيع من كل من أراده بتحريف أو
سوء ، ولهذا قال : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ
خَلْفِهِ ) أي : لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن ، لا بسرقة ، ولا بإدخال ما
ليس منه به ، ولا بزيادة ولا نقص ، فهو محفوظ في تنزيله ، محفوظة ألفاظه ومعانيه ،
قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )" انتهى من " تفسير السعدي " (750) .
ولا مدخل لهذه الآية في وصف القرآن ، في أن يوصف بأنه له يدٌ ، أو ليس له يدٌ ، أو نحو ذلك ، فإن الوصف باليد ، والرجل ، ونحو ذلك : إنما هي من أوصاف الذوات ، والقرآن : كلام الله ، وهو صفة من صفات الله ، والصفة لا توصف بأن لها يدًا ، أو ليس لها يدٌ ، فهذا فهم أجنبي من كلام العرب ، لا يتطرق إلى لغاتها بوجه ؛ وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم ، في وصف قرب الساعة : ( .. بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ ) ، في أحاديث كثيرة ، ومتنوعة ؛ فهل يعني ذلك : أن للساعة ، وهي القيامة : يدًا ، أو رجلاً ، أو ليس لها يدٌ ، أو رجلٌ ؟!
قال أبو المظفر السمعاني ،
رحمه الله :
"وَقَوله : ( من بَين يَدَيْهِ ) أَي : قبل النُّزُول ، فَإِن الرُّسُل بشرت
بِالْقُرْآنِ ، فَلَا يَأْتِيهِ مَا يدحضه ويبطله ( وَلَا من خَلفه ) أَي : بعد
النُّزُول ، وَمَعْنَاهُ : أَنه لَا يَأْتِيهِ كتاب ينسخه " انتهى من " تفسير
السمعاني" (5/56) .
وقال ابن عطية رحمه الله :
"ما تقدم الشيء : فهو بين يديه ، وما تأخر عنه : فهو خلفه " .
انتهى من " المحرر الوجيز" (2/542) .
وقال أيضا :
" وقوله : ( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ) ، معناه : ليس فيما تقدمه من الكتب ما يبطل
شيئا منه. وقوله : ( وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) ، أي : ليس يأتي بعده من نظر ناظر ،
وفكرة عاقل : ما يُبطل أشياء منه .
والمراد باللفظ على الجملة : لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات ".
انتهى من " المحرر الوجيز " (5/19) .
وينظر أيضا : " تفسير الطبري " (21/ 480) ، " تفسير ابن عطية " (1/161) ، " البحر
المحيط " ، لأبي حيان (9/311) ، " تفسير ابن كثير " (7/183) ، " غريب القرآن " لابن
قتيبة (389) ، " لسان العرب " لابن منظور (5/375، 15/424) دار صادر .
والله تعالى أعلم .
تعليق