الحمد لله.
أولا :
قال الله تعالى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) الأنعام/ 93 .
ذكر غير واحد من أهل العلم
أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي السرح
فروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1347) ، وابن جرير في "تفسيره" (11/ 534) -
واللفظ له - عن السدي قال : " نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، أسلم، وكان
يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه : "سميعًا عليمًا"، كتب هو:
"عليمًا حكيمًا" ، وإذا قال: "عليمًا حكيمًا" كتب: "سميعًا عليمًا"، فشكّ وكفر،
وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما
أنزل الله ! فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار
.
وقال بعضهم : نزل قوله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم
يوح إليه شيء) في مسيلمة ، وقوله : (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) ، في ابن أبي
السرح .
فروى ابن جرير عن عكرمة قال : " قوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال
أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء) ، قال : نزلت في مسيلمة ، وقوله : (ومن قال سأنزل مثل
ما أنزل الله) ، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان كتب للنبي صلى الله عليه
وسلم ، وكان فيما يملي "عزيز حكيم"، فيكتب "غفور رحيم" ، فيغيره ، ثم يقرأ عليه "
كذا وكذ ا"، لما حوَّل ، فيقول : " نعم ، سواءٌ ". فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال
لهم : لقد كان ينزل عليه "عزيز حكيم" فأحوِّله ، ثم أقرأ ما كتبت، فيقول: " نعم
سواء "! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة " .
"تفسير الطبري" (11/ 533) .
وممن ذكر أنها نزلت في ابن
أبي السرح : الخطابي كما في "معالم السنن" (2/287) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في
"مجموع الفتاوى" (3/ 291) ، و "الصارم المسلول" (ص 115) ، والقرطبي كما في "تفسيره"
(7/ 40) ، حتى قال ابن جرير رحمه الله :
" ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: "إني قد قلت مثل ما قال
محمد" ، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا
كذبًا " انتهى من "تفسير الطبري" (11/ 536) .
وكل ما ورد بشأن ذلك من حيث الصناعة الحديثية لا يصح منه شيء ، والذي ثبت أنه كان يقول : ( مَا يَدْرِى مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ ) رجل آخر غير ابن أبي السرح ، وغاية ما ثبت في حق ابن أبي السرح أنه ارتد ، ثم إنه عاد إلى الإسلام وتاب وحسنت توبته ، انظر إجابة السؤال رقم : (168773) .
ثانيا :
الآية عامة ، سواء ثبت دخول ابن أبي السرح فيها أو لم يثبت ، فلا أحد أظلم ممن
افترى على الله كذبا ، أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال سأنزل مثل ما
أنزل الله ؛ فمن كان من أهل ذلك ومات عليه : لحقه الذم ، وخلده الله في النار ، ومن
كان من أهل ذلك ثم تاب وأصلح : تاب الله عليه .
قال الطبري رحمه الله :
" قد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي
غيره : "أوحى الله إلي"، وهو في قيله كاذب ، لم يوح الله إليه شيئًا ، فأما التنزيل
، فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم ، وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم ، وجائز أن
يكون عني به جميع المشركين من العرب ، إذ كان قائلو ذلك منهم ، فلم يغيّروه ،
فعيّرهم الله بذلك ، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك ، ومع تركهم نكيرَه :
هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون ، ولنبوّته جاحدون، ولآيات كتاب الله
وتنزيله دافعون ، فقال لهم جل ثناؤه : "ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا "،
وقال: "أوحي إلي"، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول : " ما أنزل الله على بشر من شيء
" ، فينقض قولَه بقوله ، ويكذب بالذي تحققه ، وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره
العاقلُ الأريب : علم أن فاعله من عقله عديم " .
انتهى من " تفسير الطبري " (11/ 536) .
وإذا ثبت أن ابن أبي السرح
كان من أهل هذه الآية ، فقد ثبت أيضا ، أن الله تعالى قد أحسن إليه بعد ذلك ، وتاب
عليه ، فصار من أهل عموم قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الفرقان/ 70 .
وقد اتفق أهل العلم على أنه رجع إلى الإسلام وحسنت توبته رضي الله عنه ، فهو بذكر
هذا الثناء الحسن أولى ؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها .
والله أعلم .
تعليق