الحمد لله.
أمَا إذ طلبت نصيحتنا فإننا لا بد أن نذكرك أولا بأن ثمة أخطارا تحيط بالمعصية تساوي بشاعة المعصية نفسها أو تزيد ، ذلك أن الله عز وجل فتح للعباد أبواب التوبة ، ورغَّبهم في الرجوع إليه ، والإنابة لجلاله ورحمته ، ووعد سبحانه وتعالى من امتثل ذلك بالفضل والإكرام من جوده ، فقال عز وجل: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا النساء/17 ، وقال تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا الفرقان/71.
ولكن إذا تمكن الشيطان من التلبيس على العبد العاصي ، فأدخل في قلبه الاستهانة بالمعصية ، والعناد في ارتكابها ، أو صرف همه عن خطر المعصية نفسها ، وشغله ببعض ما سبقها أو وقع معها من أمور لا تبلغ حدها نفسها ، فتلك كلها من حيل الشيطان وتلبيساته ، وهو الذي حكى الله عز وجل قوله: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ . ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ الأعراف/16-17.
وقد روى الإمام مسلم رحمه الله في " صحيحه " (رقم/2905) عن فضيل بن غزوان قال : سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ! مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ .
يشير بذلك إلى ما جاء عن أبيه – كما في " صحيح البخاري " (5994) - عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ ، قَالَ : كُنْتُ شَاهِدًا لِابْنِ عُمَرَ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ البَعُوضِ – فَقَالَ : مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ : مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ . قَالَ : انْظُرُوا إِلَى هَذَا ، يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ البَعُوضِ ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " أورد ابن عمر رضي الله عنهما هذا متعجبا من حرص أهل العراق على السؤال عن الشيء اليسير ، وتفريطهم في الشيء الجليل " .
انتهى من " فتح الباري " (7/99) .
وهو ما وقع به اليهود من قبل ، حين عبدوا العجل بعد ما تجاوزوا البحر ، وقالوا :مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ طه/87 . كما قال ابن كثير رحمه الله : " حاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط ، فألقوها عنهم ، وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير ، وفعلوا الأمر الكبير " انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (5/311)
وهو ما وقع به أيضا المشركون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ البقرة/217. يتورعون عن القتال في الأشهر الحرم ، وقد سفكوا الدم الحرام وفتنوا المؤمنين عن دينهم .
فمن وقع في الإثم الكبير ، فالواجب عليه أن يشتغل بالتوبة منه ، ويستغرق في التفكير في إثمه ومعصيته ، حتى يتألم قلبه لما وقع ، ويعتاد على الاستغفار والاستكثار من عمل الصالحات ، لعل الله تعالى أن يتوب عليه .
أما أن ينشغل ببعض الأمور الجزئية ، فيظن فيها النجاة لنفسه ، أو يبحث فيها عما يخفف عليه ، فيرى أنه إن أتى بالكفارة لأجل الحيض ، أغنى ذلك عن التوبة من الزنا ، وغفر له ذنبه ومحيت خطيئته ، فهذا كله من تلبيس الشيطان على بني آدم .
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
" وَقَدْ تسمى قوم من الصوفية بالملامتية ، فاقتحموا الذنوب ، فقالوا : مقصودنا أن نسقط من أعين الناس ، فنسلم من آفات الجاه والمرائين . وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بامرأة فأحبلها ، فَقِيلَ لَهُ : لم تعزل ! فَقَالَ : بلغني أن العزل مكروه . فَقِيلَ لَهُ : وما بلغك أن الزنا حرام " .
انتهى من " تلبيس إبليس " (ص314) .
والخلاصة :
أننا نوصيك بالاستغراق في توبتك من معصيتك ، والعزم على عدم العودة إليها ، واستحضار عقوبة الزنا التي هي من أشد العقوبات في الدنيا والآخرة لتبقى دائما على صلة بالله سبحانه وتعالى ، ترجو رحمته وتخشى عذابه .
ولا تظني أن أداء كفارة بالتصدق بدينار أو نصف دينار كاف لتجاوز ما حصل ، أو أن ألم المعصية إنما هو لوقوع الزنا في الحيض ، بل هو لاقتحام الحرمات ، واستحلال الفروج ، وانتشار الفساد والبغاء في الأرض ، والله عز وجل يقول: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا الإسراء/32. ويقول سبحانه: وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا الفرقان/68-71.
قال ابن رجب رحمه الله :
" هاهنا أمر ينبغي التفطن له ، وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات : إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها ، وتشابهت أعماله في التقوى والورع ، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه ، فإنه لا يُحتمل له ذلك ، بل يُنكر عليه ، كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/ 283)
وقال ابن القيم رحمه الله :
" كثير ممن تجده : يتورع عن الدقائق من الحرام ، والقطرة من الخمر ، ومثل رأس الإبرة من النجاسة ؛ ولا يبالى بارتكاب الفرج الحرام ، كما يُحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية ، فلما أراد مواقعتها قال : يا هذه ! غطي وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام . وقد سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض فقال انظروا إلى هؤلاء يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله
واتفق لي قريب من هذه الحكاية ، كنت في حال الإحرام ، فأتاني قوم من الأعراب المعروفين بقتل النفوس ، والإغارة على الأموال ، يسألوني عن قتل المحرم القمل ؟ فقلت : يا عجبا لقوم لا يتورعون عن قتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويسألون عن قتل القملة في الإحرام " .
انتهى من " عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين " (ص70-71) .
وينظر في بيان شيء من عقوبات الزنا ، ووجوب التوبة منه : جواب السؤال رقم : (20983) ، ورقم : (115486) .
نسأل الله لنا ولك العفو والعافية .
والله أعلم .
تعليق