الحمد لله.
أولا :
الواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله ، ويتهم نفسه بالتقصير ، فيكون بذلك بين الخوف والرجاء : الخوف من أن يرد عليه عمله ويؤاخذه الله بذنبه ، والرجاء في رحمة الله وعافيته وقبوله .
ثانيا :
إذا عمل العبد العمل وأراد به حسنة الدنيا والآخرة ، فلا حرج عليه في ذلك .
وقد تقدم في جواب السؤال رقم : (84018) بيان أن الإنسان إذا أراد بعمله حسنى الدنيا ، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه .
قال القرافي رحمه الله :
" وَأَمَّا مُطْلَقُ التَّشْرِيكِ ، كَمَنْ جَاهَدَ لِيُحَصِّلَ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ ، وَلِيُحَصِّلَ الْمَالَ مِنْ الْغَنِيمَةِ : فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ لِيَصِحَّ جَسَدُهُ ، أَوْ لِيَحْصُلَ لَهُ زَوَالُ مَرَضٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يُنَافِيهَا الصِّيَامُ ، وَيَكُونُ التَّدَاوِي هُوَ مَقْصُودَهُ ، أَوْ بَعْضَ مَقْصُودِهِ ، وَالصَّوْمُ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ ، وَأَوْقَعَ الصَّوْمَ مَعَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ : لَا تَقْدَحُ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ فِي صَوْمِهِ ، بَلْ أَمَرَ بِهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) ؛ أَيْ : قَاطِعٌ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءَهُ ، وَيَنْوِيَ التَّبَرُّدَ أَوْ التَّنْظِيفَ ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ ، بَلْ هِيَ تَشْرِيك أُمُورٍ مِنْ الْمَصَالِحِ ، لَيْسَ لَهَا إدْرَاكٌ ، وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِدْرَاكِ وَلَا لِلتَّعْظِيمِ ؛ فَلَا تَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ .
نَعَمْ ؛ لَا يَمْنَعُ أَنَّ هَذِهِ الْأَغْرَاضَ الْمُخَالِطَةَ لِلْعِبَادَةِ قَدْ تنقصُ الْأَجْرَ ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْهَا : زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ ؛ أَمَّا الْإِثْمُ وَالْبُطْلَانُ : فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَمِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ ، لَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ " انتهى باختصار من "الفروق" (4 / 429-430)
فإذا بالغ العبد في شيء من القربات ،
أو اجتهد في أمر من العبادات ، أو الدعاء والتضرع إلى الله تعالى ، وهو ينظر في ذلك
كله إلى تفريج كربته ، وكشف ضره ، وإعطائه حاجته وسؤله : لم يقدح ذلك في عبادته
ودعائه وتضرعه ، ولم يحرمه أجر هذه العبادات .
إنما المذموم أن يعمل العمل الصالح يريد به الدنيا ، ولا تخطر الآخرة له على بال ،
فهذا لا يصح عمله ولا يقبل منه ؛ لما روى الإمام أحمد (20715) عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ
وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ
الْآخِرَةِ : لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ ) صححه الألباني
في "صحيح الجامع" (2825) فإذا عمل العمل بغرض تفريج الكرب لا غير ، دون أن تكون له
نية في طاعة الله وثوابه وابتغاء مرضاته : فهذا هو المذموم ، أما مجرد التشريك فلا
يضره ، على ما سبق بيانه .
ومما ينبغي أن يعلم : أن التقرب إلى
الله تعالى في حال الشدة أكثر من حال الرخاء ليس بمذموم مطلقا ؛ بل إن الله تعالى
مدح نفسه بأنه ـ وحده ـ الذي يجيب دعوة المضطر ؛ ومعلوم أن حال المضطر لا تكون
ملازمة له دائما ، وأن دعوته ـ حال اضطراره ـ ليست هي دعوته في حال السعة والرخاء ؛
قال الله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ) النمل/62 .
وذم الله قوما من القاسية قلوبهم ، ما عرفوا ربهم في ضراء ولا سراء ، ولا ذكرهم
البأس والبلاء بالافتقار إلى رب الأرض والسماء ؛ قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ) الأنعام/ 42- 43
أي: أخذناهم بالفقر والمرض والآفات، والمصائب، رحمة منا بهم ، لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ إلينا، ويلجأون عند الشدة إلينا.
"تفسير السعدي" (ص 256)
إنما المذموم أن يتقرب إلى الله في الشدة وينساه في الرخاء ، وهو حال الكافر
المعاند ؛ ولذلك قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ
سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ
فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ) رواه الترمذي (3382) وحسنه الألباني في
"صحيح الترمذي" .
وقد قِيلَ: مِنْ شِيمَةِ الْمُؤْمِنِ الشَّاكِرِ الْحَازِمِ أَنْ يَرِيشَ
لِلسَّهْمِ قَبْلَ الرَّمْيِ، وَيَلْتَجِئَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ مَسِّ
الِاضْطِرَارِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْغَبِيِّ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا
خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) الزمر/
8 .. " انتهى من مرقاة المفاتيح" (4/ 1531)
وأكمل الأحوال أن يتقرب العبد إلى ربه
في حال الشدة تقربه إليه في حال الرخاء ، فلا يتغير بتغير الأحوال . قال ابن رجب
رحمه الله :
" مَنْ عَامَلَ اللَّهَ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فِي حَالِ رَخَائِهِ، عَامَلَهُ
اللَّهُ بِاللُّطْفِ وَالْإِعَانَةِ فِي حَالِ شِدَّتِهِ " انتهى من "جامع العلوم
والحكم" (1/ 474)
والواجب على العبد أن يجاهد نفسه في
تصحيح نيته في عمله كله ، وطلب الآخرة بعملها ، والدنيا بأعمالها ، وأن يفتقر إلى
ربه في قبول طاعته ، وتضرعه ودعائه ، مع حسن الظن بالرب الرحمن الرحيم ، الجواد
الكريم ، الشكور الحليم .
روى البخاري (7405) ومسلم (2675) ، واللفظ له ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ اللهَ
يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي ) .
راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (113177) ، (120175)
والله تعالى أعلم .
تعليق