الحمد لله.
بداية لا بد أن نقرر الإنصاف والعدل الذي أمرنا الله عز وجل به ، ونعلم أن الغرب أو الشرق ليسوا كلهم معادين للإسلام ، ولا جميعهم يبحث عن مطاعن في القرآن والحديث ، بل جاء القرآن الكريم بالتفريق بين المعتدين منهم ، وبين المنصفين الذين يعلمون عظمة دين الإسلام ، قال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) آل عمران/75-76، وقال تعالى : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) آل عمران/113 .
وقد بحث العلماء في أهداف
الأبحاث والدراسات التي تغص بها مكتبات الاستشراق ، ودوافع الكتابة في الطعن في
القرآن والحديث ، فذكروا مجموعة من الأهداف والدوافع ، نحاول تقريرها باختصار من
كتاب " الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم " للشيخ مصطفى السباعي رحمه الله ،
حيث يقول : " دوافع الاستشراق :
1 - الدافع الديني :
لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول للاستشراق عند
الغربيِّين وهو الدافع الديني ، فقد بدأ بالرهبان واستمر كذلك حتى عصرنا الحاضر ،
وهؤلاء كان يهُمُّهُمْ أنْ يطعنوا في الإسلام ، ويُشَوِّهُوا محاسنه ، ويُحَرِّفُوا
حقائقه ، ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدِّينِيَّةِ : أنَّ الإسلام - وقد
كان يومئذٍ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيِّين - دين لا يستحق الانتشار ،
وأنَّ المسلمين قوم هُمَّجٌ لصوص وسفَّاكُو دماء ، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية
، ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي .
ثم اشتدَّتْ حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر ، بعد أنْ رأوا الحضارة الحديثة
قد زعزعت أسس العقيدة عند الغربيِّين ، وأخذت تشكُّكَهُم بكل التعاليم التي كانوا
يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى ، فلم يجدوا خيراً من تشديد الهجوم على
الإسلام ، لصرف أنظار الغربيِّين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة ، وهم يعلمون
ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ، ثم الحروب الصليبية ، ثم الفتوحات العثمانية
في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيِّين من خوف من قوة الإسلام ، وكرهٍ لأهله ،
فاستغلُّوا هذا الجو النفسي ، وازدادوا نشاطاً في الدراسات الإسلامية .
وهناك الهدف التبشيري الذي لم يتناسوه في دراساتهم العلميَّة ، وهم قبل كل شيء رجال
دين ، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سُمعة الإسلام في نفوس رُواد ثقافتهم من المسلمين ؛
لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية ، والتشكيك في التراث الإسلامي والحضارة
الإسلامية ، وكل ما يتَّصل بالإسلام من علم وأدب وتراث .
2 - الدافع الاستعماري :
لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيِّين ، وهي في ظاهرها حروب دينية ، وفي
حقيقتها حروب استعمارية ، لم ييأس الغَرْبِيُّونَ من العودة إلى احتلال بلاد العرب
فبلاد الإسلام ، فاتَّجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها ، من عقيدة وعادات
وأخلاق وثروات ؛ ليتعرَّفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها ، وإلى مواطن الضعف
فيغتنموها ، ولما تمَّ لهم الاستيلاء العسكري ، والسيطرة السياسية ، كان من دوافع
تشجيع الاستشراق : إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا ، وبث الوهن
والارتباك في تفكيرنا ، وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث ، وما
عندنا من عقيدة وقِيَمٍ إنسانية ، فنفقد الثقة بأنفسنا ، ونرتمي في أحضان الغرب ،
نستجدي منه المقاييس الأخلاقية ، والمبادئ العقائدية ، وبذلك يتم لهم ما يريدون من
خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم ، خضوعاً لا تقوم لنا من بعده قائمة .
3 - الدافع التجاري :
ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق ، رغبة الغربيِّين في التعامل
معنا لترويج بضائعهم ، وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان ، ولقتل صناعتنا
المحلية التي كانت لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين .
4 - الدافع السياسي :
وهنالك دافع آخر أخذ يتجلَّى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول العربية
والإسلامية ، ففي كل سفارة من سفارات الدول الغربية ، لدى هذه الدول : سكرتير ، أو
ملحق ثقافي ، يحسن اللغة العربية ، ليتمكَّن من الاتصال برجال الفكر والصحافة
والسياسة ، فيتعرَّف إلى أفكارهم ، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته
، وكثيراً ما كان لهذا الاتصال أثره الخطير في الماضي ، حين كان السفراء
الغَرْبِيُّونَ - ولا يزالون في بعض البلاد العربية والإسلامية - يبُثُّون الدسائس
للتفرقة بين الدول العربية بعضها مع بعض ، وبين الدول العربية والدول الإسلامية ،
بحُجَّة توجيه النصح ، وإسداء المعونة ، بعد أنْ درسوا تماماً نفسيَّة كثيرين من
المسؤولين في تلك البلاد ، وعرفوا نواحي الضعف في سياستهم العامة ، كما عرفوا
الاتجاهات الشعبية الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم .
5 - الدافع العِلْمِيّ :
ومن المُسْتَشْرِقِينَ نفر قليل جِدًّا : أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الاطلاع
على حضارات الأمم وأديانها وثقافاتها ولغاتها ، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأً في
فهم الإسلام وتراثه ؛ لأنهم لم يكونوا يتعمَّدون الدَسَّ والتحريف ، فجاءت أبحاثهم
أقرب إلى الحق ، وإلى المنهج العملي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة إلى
المُسْتَشْرِقِينَ ، بل إنَّ منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته .
على أنَّ هؤلاء لا يوجدون ـ عادة ـ إلاَّ حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة :
ما يمكنهم من الانصراف إلى دراسات الاستشراق بأمانة وإخلاص ؛ لأنَّ أبحاثهم
المُجَرَّدة عن الهوى ، لا تلقى رواجاً ، لا عند رجال الدين ، ولا عند رجال السياسة
، ولا عند عامة المتنفذين ، وأصحاب السطوة والثروة والوفرة ؛ ومن ثم ، فهي لا
تَدُرُّ عليهم ربحاً ولا مالاً ؛ ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط
المُسْتَشْرِقِينَ .
أهداف الاستشراق ووسائله :
تنقسم أهداف المُسْتَشْرِقِينَ في جُملتهم من الدراسات الاستشراقية إلى ثلاثة أقسام
:
[أ]- هدف عِلْمِيٍّ مشبوه ، ويهدف إلى :
1 - التشكيك بصحَّة رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
2 - إنكارهم أنْ يكون الإسلام ديناً من عند الله .
3 - التشكيك في صِحَّةِ الحديث النبوي .
4 - التشكيك بقيمة الفقه الإسلامي الذاتية .
5 - التشكيك في قُدْرَةِ اللُّغة العربية على مسايرة التطوُّرَ العِلْمِيّ .
تلك هي الأهداف العلميَّة التي يعمل لها أكثرهم أو جَمْهَرَتُهُمْ الساحقة .
[ب]- الأهداف الدِّينِيَّةِ
والسياسية :
وتتلخَّص فيما يلي :
1 - إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم ، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قِيمٍ
وعقيدة ومُثُلٍ عُلْيَا ، ليسهل على الاستعمار تشديد وطأته عليهم ، ونشر ثقافته
الحضارية فيما بينهم ، فيكونوا عبيداً لها ، يجرُّهُمْ حُبُّهَا إلى حُبِّهِمْ ، أو
إضعاف روح المقاومة في نفوسهم .
2- إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم عن طريق إحياء
القوميات التي كانت لهم قبل الإسلام ، وإثارة الخلافات والنعرات بين شعوبهم .
[جـ]- أهداف علميَّة خالصة :
أهداف علميَّة خالصة لا يقصد منها إلاَّ البحث والتمحيص ، ودراسة التراث العربي
والإسلامي دراسة تجلو لهم بعض الحقائق الخافية عنهم ، وهذا الصنف قليل عدده جداً ،
كما سبق ذكره ، وهم مع إخلاصهم في البحث والدراسة : لا يسلم الكثير منهم من الأخطاء
في البحث ، والاستنتاجات البعيدة عن الحق ، إمّا لجهلهم بأساليب اللغة العربية ،
وإمَّا لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها .
وهذه الفئة أسلم الفئات
الثلاث في أهدافها ، وأقلّها خطراً ؛ إذ سرعان ما يرجعون إلى الحق حين يَتَبَيَّنُ
لهم ، ومنهم من يعيش بقلبه وفكره في جَوِّ البيئة التي يدرسها ، فيأتي بنتائج تنطبق
مع الحق والصدق والواقع ، ولكنهم يلقون عنتاً ممن يتَّهمونهم بالانحراف عن النهج
العِلْمِيّ ، أو الانسياق وراء العاطفة ، أو الرغبة في مجاملة المسلمين والتقرُّب
إليهم ، كما فعلوا مع " توماس أرنولد " حين أنصف المسلمين في كتابه " الدعوة إلى
الإسلام " ؛ فقد برهن على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين ،
على عكس مخالفيهم معهم ، هذا الكتاب الذي يعتبر من أدق وأوثق المراجع الغربية في
تاريخ التسامح الديني في الإسلام ، يطعن فيه المُسْتَشْرِقُونَ المُتعصِّبُون وخاصة
المُبَشِّرِينَ منهم ، بأنَّ مؤلفه كان مندفعاً بعاطفة قوية من الحب والعطف على
المسلمين ، مع أنه لم يذكر فيه حادثة إلاَّ أرجعها إلى مصدرها .
ومن هؤلاء من يُؤَدِّي بهم البحث الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام ، والدفاع
عنه في أوساط أقوامهم الغربيِّين ، كما فعل المستشرق الفرنسي " دينيه " الذي عاش في
الجزائر ، فأعجب بالإسلام وأعلن إسلامه ، وتَسَمَّى باسم " ناصر الدين دينيه "،
وألَّف مع عالم جزائري كتاباً عن سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وله كتاب " أشعة خاصة بنور الإسلام " بَيَّنَ فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله ،
وقد توفي هذا المستشرق المسلم في فرنسا ، ونقل جثمانه إلى الجزائر ودفن بها "
مستفاد ، باختصار وتصرف من كتاب " الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم " للشيخ
مصطفى السباعي رحمه الله .
والله أعلم .
تعليق