الحمد لله.
أولا :
كان من علم أهل الكتاب أن نبي ذلك الزمان ، صلى الله عليه وسلم ، الذي يتيقنون خروجه ، ويعلمون وصفه ، لا يخفى عليهم أمره ، ستكون هجرته إلى المدينة ، وكان كثير من أحبارهم يؤمِّلون أن يكون منهم ، فارتحل كثير منهم من بلاد الشام إلى المدينة ، لما يتربصون به من مخرجه ومبعثه .
روى أبو نعيم في "دلائل النبوة" (ص 79) عَنْ أَبِي نَمْلَةَ ، قَالَ : " كَانَتْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ يَدْرُسُونَ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ ، وَيُعَلِّمُونَ الْوِلْدَانَ بِصِفَتِهِ ، وَاسْمِهِ ، وَمُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا ظَهَرَ حَسَدُوا ، وَبَغُوا ، وَأَنْكَرُوا " .
وقال ابن إسحاق في "السيرة"
(ص 84):
حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال حدثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم
بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ، كان معنا يهود ، وكانوا أهل كتاب ، وكنا
أصحاب وثن ، فكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا : إن نبيا مبعوثاً الآن قد أظل
زمانه نتبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروا به ،
ففينا والله وفيهم أنزل الله عز وجل : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) البقرة/ 89 .
وهذا إسناد جيد .
ثانيا :
كان من هؤلاء الذين أحكموا
وصف ذلك النبي ، وترقبوا خروجه ، وحرصوا على اتباعه : رجل منهم يدعى ابن الهَيْبان
.
روى ابن إسحاق في "السيرة" - (ص85) ، ومن طريقه البيهقي في "سننه" (18263) ، وأبو
نعيم في "دلائل النبوة" (ص81) عن عَاصِم بْن عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ شَيْخٍ
مِنْ قُرَيْظَةَ أَنَّهُ قَالَ : هَلْ تَدْرِي عَمَّ كَانَ إِسْلَامُ ثَعْلَبَةَ
وَأُسَيْدٍ ابْنَيْ سَعْيَةَ ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ نَفَرٌ مِنْ هُدَلَ ، لَمْ
يَكُونُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا نَضِيرٍ كَانُوا فَوْقَ ذَلِكَ ؟
فَقُلْتُ : لَا .
قَالَ: فَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الشَّامِ مِنْ يَهُودَ ، يُقَالُ
لَهُ ابْنُ الْهَيبَانِ فَأَقَامَ عِنْدَنَا ، وَاللهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ
لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ خَيْرًا مِنْهُ ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا قَبْلَ مَبْعَثِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ ، فَكُنَّا إِذَا
قُحِطْنَا وَقَلَّ عَلَيْنَا الْمَطَرُ نَقُولُ لَه : يَا ابْنَ الْهَيبَانِ
اخْرُجْ فَاسْتَسْقِ لَنَا ، فَيَقُولُ : لَا وَاللهِ حَتَّى تُقَدِّمُوا أَمَامَ
مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً ، فَنَقُولُ : كَمْ نُقَدِّمُ ؟ فَيَقُولُ : صَاعًا مِنْ
تَمْرٍ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى ظَاهِرَةِ حَرَّتِنَا
وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَسْتَسْقِي ، فَوَاللهِ مَا يَقُومُ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى
تُمَرَّ الشِّعَابُ ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ لَا مَرَّتَيْنِ وَلَا
ثَلَاثَةً ، فَحَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَاجْتَمَعْنَا إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا
مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ
إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ فَقُلْنَا : أَنْتَ أَعْلَمُ ، فَقَالَ :
إِنَّهُ إِنَّمَا أَخْرَجَنِي أَتَوَقَّعُ خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ
، هَذِهِ الْبِلَادُ مُهَاجَرُهُ ، فَأَتَّبِعُهُ ؛ فَلَا تُسْبَقُنَّ إِلَيْهِ
إِذَا خَرَجَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ ، فَإِنَّهُ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَيَسْبِي
الذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ مِمَّنْ خَالَفَهُ ، فَلَا يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ
. ثُمَّ مَاتَ .
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ فِيهَا قُرَيْظَةُ ،
قَالَ أُولَئِكَ الْفِتْيَةُ الثَّلَاثَة ، وَكَانُوا شُبَّانًا أَحْدَاثًا : يَا
مَعْشَرَ يَهُودَ ؛ لَلَّذِي كَانَ ذَكَرَ لَكُمُ ابْنُ الْهَيبَانِ . قَالُوا :
مَا هُوَ به . قَالُوا : بَلَى وَاللهِ لَهُوَ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ، إِنَّهُ
وَاللهِ لِصِفَتِه . ثُمَّ نَزَلُوا فَأَسْلَمُوا وَخَلَّوْا أَمْوَالَهَمْ
وَأَوْلَادَهُمْ وَأَهَالِيَهُمْ . قَالَ : وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ فِي الْحِصْنِ
مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، فَلَمَّا فُتِحَ رُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ".
وذكره الألباني في "صحيح السيرة" (ص60) .
وعَنْ شُعَيْبِ بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . قَالَ : " كَانَ بِمَرِّ الظّهْرَانِ رَاهِبٌ
مِنَ الرُّهْبَانِ يُدْعَى عِيصًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ، وَكَانَ متخفرا بالعاص بن
وائل ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَاهُ عِلْمًا كَثِيرًا ، وَكَانَ يَلْزَمُ
صَوْمَعَةً لَهُ ، وَيَدْخُلُ مَكَّةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، فَيَلْقَى النَّاسَ ،
وَيَقُولُ : إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُولَدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ يَا أَهْلَ مَكَّةَ ،
يَدِينُ لَهُ الْعَرَبُ ، وَيَمْلِكُ الْعَجَمَ ، هَذَا زَمَانُهُ ، وَمَنْ
أَدْرَكَهُ وَاتَّبَعَهُ أَصَابَ حَاجَتَهُ ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته ، وباللَّه
مَا تَرَكْتُ أَرْضَ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ وَالْأَمْنِ ، وَلَا حَلَلْتُ بِأَرْضِ
الْجُوعِ وَالْبُؤْسِ وَالْخَوْفِ إِلَّا فِي طَلَبِهِ " انتهى من "البداية
والنهاية" (2/ 272) .
وينظر : "المنتظم" (2/ 338) ، "البداية والنهاية" (2/ 310) ، "الجواب الصحيح لمن
بدل دين المسيح" (5/ 175) ، "هداية الحيارى" (1/ 247).
فتبين بما تقدم أن هجرة كثير من أهل الكتاب ، ممن ارتحل من الشام وغيرها إلى المدينة ، قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كانت ترقبا لخروج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من كان يطمع أن يكون من معشر اليهود .
وينظر جواب السؤال رقم : (88651) ، (175339).
والله تعالى أعلم .
تعليق