الحمد لله.
أولا :
الصحة الإنجابية : جانب مهم ، ينبغي اعتباره والنظر إليه للخاطبين ، كما أن مراعاة قضايا الصحة العامة ، والتوقي من البلاء ، وإزالة الضرر ، هي مقاصد معتبرة في الشرع بوجه عام . وقد دل على اعتبار ذلك ومراعاته في النظر : مجموع الأدلة الكثيرة ، والمتنوعة ، التي تحث على الصحة الوقائية ، كمثل قوله صلى الله عليه وسلم : (لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ ) رواه البخاري (5771) ، ومسلم (2221)، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ ) رواه البخاري (5707) ، وأيضا حديثه عليه الصلاة والسلام حين قال : ( إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا ) رواه البخاري (5728) ، ومسلم (2218) .
وقد ورد في السنة ما يدل على تأثير العامل الوراثي في انتقال الصفات ، ولو من أجيال بعيدة ، فقد ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : " أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وُلِدَ لِي غُلاَمٌ أَسْوَدُ ، فَقَالَ : ( هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ ) ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ( مَا أَلْوَانُهَا ؟ ) ، قَالَ : حُمْرٌ ، قَالَ : ( هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ ) ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ( فَأَنَّى ذَلِكَ ؟ ) ، قَالَ : لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ ، قَالَ : ( فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ ) " رواه البخاري (5305) ، ومسلم(1500).
فهذه الأدلة ، ونحوها ، مما يدل على أن الوقاية سلوك شرعي صحيح ، وردت السنة النبوية بالأمر به والحث عليه ، واعتباره في النظر ، من حيث الجملة ، وهو سلوك متغير ومتجدد بحسب ما يستجد للناس من علوم ، وبحسب ما يتغير في الزمان والمكان من وسائل الوقاية وأسباب الإصابة .
والوقاية من الأمراض
الوراثية هي إحدى الصور التي تندرج في هذا المقصد الشرعي العام ، فقد أصبح الطب
الحديث قادرا على التنبؤ بكثير من تلك الأمراض قبل الزواج ، من خلال الفحوص
المخبرية الدقيقة للمورثات الجينية لكل من الرجل والمرأة ، والنظر في "التاريخ
المرضي" للأسر .
وحين يتبين احتمال وقوع الإصابات الوراثية أو التشوهات الخلقية والعقلية ، فحينئذ
تصبح المسؤولية متجهة إلى كل من الخاطبين ، كي يعيدا حساباتهما ، ويتخذا قرارهما في
ضوء معطيات عديدة : منها صيانة النفس وإعفافها ، ومنها تجنب حصول الضرر لأحد
الزوجين أو ذريتهما ، ومنها : مدى إمكان تحصيل المقاصد الشرعية ، من النسل ، والعفة
، من خلال اختيارات أخرى ، يتجنب فيها الطرفان ، أو أحدهما تلك الاحتمالية المذكورة
على الذرية .
وهكذا ، يحتاج الأمر ، حين تحقق هذه الإشكالية الوراثية : إلى نوع من التأمل
والتريث ، والدراسة المتعقلة لجوانب المشكلة .
سئل الشيخ ابن جبرين رحمه الله السؤال الآتي :
ما حكم إجراء الفحص الطبي للزوجين قبل الزواج ؟
فأجاب :
" لا بأس بذلك إذا خيف من مرض داخلي ، مما يؤثر على الصحة ، ويمنع من راحة الزوجين
، واستقرار الحياة والطمأنينة فيها ، فربما كان في أحدهما مس أو صرع ، أو مرض مزمن
ولو سهل ، كربو أو سكر أو بلهارسيا أو روماتيزم ، وهكذا مرض العقم ، وعدم الإنجاب .
لكن إذا كان ظاهر الزوجين السلامة ، والبيئة والمجتمع الذي هما به : لا توجد فيه
هذه الأمراض ونحوها ، فالأصل أن لا مرض ولا خوف ، فلا حاجة إلى فحص طبي لكل زوجين ،
لكن إذا قامت قرائن ، وخيف من وجود مرض خفي ، وطلب أحد الزوجين أو الأولياء الكشف :
لزمه ذلك ، حتى لا يحصل بعد العقد خلاف ونزاع " .
انتهى من " فتاوى الشيخ ابن جبرين " (21/ 17، بترقيم الشاملة آليا) .
ثانيا :
لم نقف على حديث يحذر من انتقال العلة بين الأجيال حتى الجيل السابع ، وإنما هو مثل
معروف بين الناس يقولون فيه : " العرق يمد لسابع جد "، وإنما صح عندنا الحديث
السابق ( نزعه عرق ).
وأما حديث ( العرق دساس ) : فقد روي عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - وَهُوَ يُوصِي رَجُلًا – يَقُولُ : (
يَا أَبَا فُلَانٍ : أَقِلَّ مِنَ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا ، وَأَقِلَّ مِنَ
الذُّنُوبِ يَهُنْ عَلَيْكَ الْمَوْتُ ، وَانْظُرْ فِي أَيِّ نِصَابٍ تَضَعُ
وَلَدَكَ ؛ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاسٌ ) .
والحديث : رواه ابن الأعرابي في " معجمه " (2/501) ، وهو حديث ضعيف جدا بسبب محمد
بن عبد الرحمن البيلماني ، ترجمته في " تهذيب التهذيب " (9/293)، قال فيه ابن حبان
: " حدث عن أبيه بنسخة ، شبيها بمائتي حديث ، كلها موضوعة ، لا يجوز الاحتجاج به ،
ولا ذكره في الكتب إلا على جهة التعجب " انتهى من " المجروحين " (2/264) .
وهكذا حكم على الحديث بالضعف الشديد : الشيخ الألباني رحمه الله في " سلسلة
الأحاديث الضعيفة " (5337).
وقد وردت له شواهد أخرى ، عن جماعة من الصحابة ، لكنها كلها طرق ضعيفة ، أو شديدة
الضعف ، أو موضوعة .
وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ ، وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ ،
وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ ) رواه ابن ماجه (1968) وغيره من طريق ( اثني عشر من
التلاميذ ) أخذوه عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا .
وهؤلاء الرواة عن هشام كلهم
من الضعفاء والمتروكين ، إلا أحدهم اسمه الحكم بن هشام ، ثقة ، ولكنه أدخل بينه
وبين هشام بن عروة راويا ضعيفا ، فقال عن مندل بن علي ، عن هشام بن عروة ، فشيخه في
الرواية مندل ، وهو متفق على ضعفه ، حتى قال فيه ابن حبان : " كان ممن يرفع
المراسيل ويسند الموقوفات من سوء حفظه ، فاستحق الترك " .
ينظر " تهذيب التهذيب " (10/299)
وهذه العلة غفل عنها محققو " سنن ابن ماجه " في طبعة " دار الرسالة العالمية "
(3/142) فحسنوا الحديث بطرقه وشواهده ، وكان تحسينهم متكئا على متابعة الحكم بن
هشام هذا ، وكذلك وقع للشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1067) .
والصواب أن متابعته منكرة ليست صحيحة ؛ لأنها ترجع إلى مندل بن علي .
ولهذا فقد تواردت عبارات الأئمة والنقاد على رد هذا الحديث ، والحكم ببطلانه ، بل
ونفي أصله ، وعدوا رفعه ووصله خطأ منكرا .
قال أبو حاتم :
" ليس له أصل...هذا حديث منكر....هذا حديث باطل " انتهى من " علل الحديث " (3/720).
وقال أبو زرعة :
" لا يصح هذا الحديث " انتهى من " علل الحديث " (4/18) .
وقال ابن حبان :
" أصل الحديث مرسل ، ورفعه باطل " انتهى من " المجروحين " (1/225) .
وقال ابن عبد البر :
" هذا الحديث منكر باطل لا أصل له " انتهى من " التمهيد " (19/165) .
وقال الدارقطني :
" رواه هشام بن زياد ، عن هشام ، عن أبيه ، مرسلا ، وهو أشبه بالصواب " .
انتهى من " العلل " (15/61) .
وقال الخطيب البغدادي :
" كل طرقه واهية " انتهى من " تاريخ بغداد " (2/80).
وقال ابن الجوزي :
" هذه الأحاديث لا تصح " انتهى من " العلل المتناهية " (2/124)
وقال أيضا :
" ليس له أصل " انتهى من " الضعفاء والمتروكين " (1/182) .
وقال الزيلعي :
" روي من طرق عديدة كلها ضعيفة " انتهى من " نصب الراية " (3/196) .
وقال الذهبي :
" أصل الحديث مرسل " انتهى من " ميزان الاعتدال " (1/ 439) .
وضعفه العراقي في " تخريج أحاديث الإحياء " (1/479) .
وقال ابن حجر رحمه الله :
" مداره على أناس ضعفاء " انتهى من " التلخيص الحبير " (3/309) .
ينظر تخريج الحديث بتوسع في " تحقيق جزء من علل ابن أبي حاتم " للدكتور علي الصياح
(2/475-486) .
والله أعلم .
تعليق