الحمد لله.
أولا :
يجب على المسلم أن يجتنب النجاسة ويطهر ما مسّه منها باتفاق العلماء .
قال ابن القطان رحمه الله :
" وغسل النجاسات واجتناب المحرمات فرض بلا خلاف " انتهى من " الإقناع في مسائل
الإجماع " ( 1 / 79 ) .
ثانيا :
الله رحيم بنا ، فلم يكلفنا بما يحرجنا ويوقعنا في المشقة والعسر .
قال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )
البقرة / 185 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي
رحمه الله :
" أي : يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ،
ويسهلها أشد تسهيل ، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله
.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله ، سهَّله تسهيلا آخر ، إما بإسقاطه ، أو
تخفيفه بأنواع التخفيفات .
وهذه جملة لا يمكن تفصيلها ؛ لأن تفاصيلها جميع الشرعيات ، ويدخل فيها جميع الرخص
والتخفيفات " انتهى من " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " ( ص 84 ) .
وروى البخاري (39) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" والمشادّة بالتشديد : المغالبة ... والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ،
ويترك الرفق : إلا عجز ، وانقطع ؛ فيغلب .
قال ابن المنيِّر : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس
قبلنا : أن كل متنطع في الدين ينقطع ، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ،
فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في
التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته ، كمن بات يصلي الليل كله ،
ويغالب النوم ، إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ،
أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس ، فخرج وقت الفريضة ، وفي حديث
محجن بن الأدرع عند أحمد :
( إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة ، وخير دينكم اليَسْرة ) ، وقد يستفاد من
هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية ، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع ،
كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء ، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر "
انتهى من " فتح الباري " (1/94 - 95) .
فالمقصود : أن على المسلم ألّا يتبع في أمور دينه ما تهواه نفسه ، أو يقتضيه طبعه ، وسواء في ذلك جانب التشدد أو جانب التهاون ؛ بل عليه أن يتبع ما تدل عليه الشريعة .
قال ابن تيمية رحمه الله :
" فإنّ التّشديد في النّجاسات ، جنسا وقدرا ، هو دين اليهود ، والتّساهل هو دين
النّصارى ، ودين الإسلام هو الوسط " انتهى من " مجموع الفتاوى " (21/18 - 19) .
فإذا جاءت الشريعة بالتيسير
في أمر ما : فعلى المسلم أن يتبعها ، ولا يشدد على نفسه .
ومن اليسر ، وعدم الحرج الذي جاءت به الشريعة ، ما استخرجه أهل العلم من النصوص
الشرعية : أن الإنسان ، رجلا كان أو امرأة ، صغيرا كان أو كبيرا ، مسلما كان أو
كافرا ، كلهم الأصل فيهم طهارة العين ؛ يعني : أن ذواتهم وأجسادهم : الأصل فيها
الطهارة .
جاء في " الموسوعة الفقهية
الكويتية " (40/78) :
" ذهب الفقهاء إلى طهارة الآدمي الحي ، المسلم والكافر ؛ لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) ، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف – وهم
كفار - في المسجد ، ولو كانت أبدانهم نجسة ، لم ينزلهم فيه تنزيها له " انتهى .
والقول بطهارته يقتضي الحكم بطهارة لعابه ، ورطوبة يده ، إلا إذا تيقنا تلطخها بالنجاسة .
قال النووي رحمه الله :
" واعلم أنّه لا فرق في العَرَق واللّعاب والمخاط والدّمع : بين الجنب والحائض ،
والطّاهر ، والمسلم والكافر ... بل هي طاهرة من جميعها ، ومن كل حيوان طاهر " انتهى
من " المجموع " (2/577) .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" فأمّا الخارج من غير السّبيلين ، فالحيوانات فيه أربعة أقسام : أحدها : الآدميّ ،
فالخارج منه نوعان ، طاهر ؛ وهو ريقه ودمعه وعرقه ومخاطه ونخامته " انتهى من "
المغني " (2/493) .
وعلى هذا ، فلا يحكم بنجاسة
لعاب شخص أو يده إلا بيقين ، أما مجرد الشك فلا عبرة به .
وكونه يأكل ما ذكر ، لا يعني : نجاسة لعابه ، أو بدنه ، أو نحو ذلك ، فما زال
الكفار يأكلون هذه المحرمات ، ويشربونها ، ولم ينه الشرع عن ملابستهم ، ولم يأمر
بالتحرز من أبدانهم وذواتهم .
قال ابن القيم رحمه الله :
" والضابط فيه – أي في الشك العارض للمسلم - أنه إن كان للمشكوك فيه حال قبل الشك :
استصحبها المكلَّفُ ، وبنى عليها ، حتى يتيقن الانتقال عنها ، هذا ضابط مسائله .
فمن ذلك : إذا شك في الماء هل أصابته نجاسة أم لا ؟ بني على يقين الطهارة .
ولو تيقن نجاسته ثم شك هل زالت أم لا ؟ بنى على يقين النجاسة " انتهى من " بدائع
الفوائد " (3/1278) .
وقال القرافي رحمه الله :
" ما أُلغي فيه الغالب ، وقدّم النّادر عليه ، وأثبت حكمه دونه رحمة بالعباد .
وأنا أذكر منه عشرين مثالا ...
(السادس ) الغالب على ثياب الصّبيان النّجاسة لا سِّيما مع طول لبسهم لها ،
والنّادر سلامتها ، وقد جاءت السُّنَّة بصلاته عليه السّلام بأمامة ، يحملها في
الصّلاة ، إلغاء لحكم الغالب وإثباتا لحكم النّادر ، لطفا بالعباد...
( الثامن ) ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة في أوانيهم ، وبأيديهم الغالب نجاسته
لما تقدّم ، والنّادر طهارته ، ومع ذلك أثبت الشّرع حكم النّادر ، وألغى حكم الغالب
، وجوّز أكله توسعة على العباد ...
ونظائر هذا الباب كثيرة في الشّريعة ؛ فينبغي أن تُتَأمّل ، وتُعلم ؛ فقد غفل عنها
قوم في الطّهارات ، فدخل عليهم الوسواس ، وهم يعتقدون أنّهم على قاعدة شرعيّة ، وهي
الحكم بالغالب ؛ فإنّ الغالب على النّاس والأواني والكتب ، وغير ذلك ممّا يلابسونه
: النّجاسة ؛ فيغسلون ثيابهم ، وأنفسهم من جميع ذلك بناء على الغالب ، وهو غالب كما
قالوا ... ؛ لكن لصاحب الشّرع أن يضع في شرعه ما شاء ، ويستثني من قواعده ما شاء هو
أعلم بمصالح عباده !!
فينبغي لمن قصد إثبات حكم الغالب ، دون النّادر : أن ينظر ؛ هل ذلك الغالب ممّا
ألغاه الشّرع أم لا ، وحينئذ يعتمد عليه ، وأمّا مطلق الغالب ، كيف كان ، في جميع
صوره : فخلاف الإجماع " انتهى من " الفروق " (4 /240 – 245) .
وعلى هذا : لا يُحكم على
لعاب شخص ، أو رطوبة يده ، بالنجاسة ، حتى تتيقن نجاسة ذلك ، ولا يعني أكل ما ذكر ،
أن ذلك نجس منه ؛ خاصة وأن في مجاري عادات الناس : شرب الماء ونحوه من المشروبات
الطاهرة بعد ذلك ، أو غسل أفواههم بعده ، ومن شأن ذلك أن يذهب ما تبقى فيها من أثر
النجاسة .
قال ابن تيمية رحمه الله
(21/520 – 521) :
" ... وأمّا مع الشّكّ : فالأصل في ذلك الطّهارة ، والاحتياط في ذلك : وسواس ؛ فإنّ
الرّجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرا ، ويجوز أن يكون نجسا : لم يستحبّ له
التّجنّب ، على الصّحيح ، ولا الاحتياط ؛ فإنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه مرّ هو
وصاحب له بميزاب ، فقطر على صاحبه منه ماء ، فقال صاحبه : يا صاحب الميزاب ، ماؤك
طاهر أو نجس ؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره ، فإنّ هذا ليس عليه " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" أما بالنسبة للسؤال الثاني وهو أن الأطفال يلمسون مقابض الأبواب ، وأيديهم نجسة ؛
فإننا نقول : ما الذي أدراها أن أيدي الأطفال نجسة ؟ فما دامت لا تعلم علم اليقين
أن هذه الأيدي تلوثت بالنجاسة ، فإن الأصل الطهارة ، ولا نحكم بنجاسة الأولاد إذا
لم نعلم أنهم تلوثوا بالنجاسة ، لا بأبدانهم ولا بثيابهم ؛ نعم إذا تيقنا أن الطفل
مس هذا المقبض ، وتلوث هذا المقبض بنجاسته ، فإنه لابد من غسل هذا المقبض بالماء .
ويرى بعض أهل العلم أن الشيء الصقيل إذا مسح مسحاً تاماً ، حتى زال أثر النجاسة :
فإنه يطهر .
والمهم أننا إذا تيقنا أن أيدي الصبي نجسة ، وأن مقبض الباب تلوث بها ، فإنه لابد من إزالة هذه النجاسة التي تلوث بها هذا المقبض ، وإلا فالأصل الطهارة " انتهى من " فتاوى نور على الدرب لابن عثيمين " .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 111904 ) .
على أنه ينبغي للمسلم أن
يحرص أن يكون أصحابه من الصالحين الطاهرين في أديانهم وأبدانهم ؛ فإن الله يحب
التوابين ويحب المتطهرين ، فالمشروع للمسلم أن تكون محبته ، وموالاته ، ومصاحبته
لهؤلاء ، وأن تكون مخالطته لغيرهم بقدَر .
وينظر للفائدة الفتوى رقم : ( 82287 ) .
والله أعلم .
تعليق