الحمد لله.
أولا :
ذهب جماهير أهل العلم إلى كراهة الصلاة بعد العصر حتى غروب الشمس ، وبعد الصبح حتى ترتفع الشمس ، وحكى بعض أهل العلم الاتفاق على ذلك .
فروى البخاري ومسلم (827) عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ ) .
قال النووي رحمه الله :
" فِي أَحَادِيث الْبَاب : نَهْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة بَعْد الْعَصْر حَتَّى تَغْرُب الشَّمْس ، وَبَعْد الصُّبْح حَتَّى تَطْلُع الشَّمْس ، وَبَعْد طُلُوعهَا حَتَّى تَرْتَفِع ، وَعِنْد اِسْتِوَائِهَا حَتَّى تَزُول ، وَعِنْد اِصْفِرَارهَا حَتَّى تَغْرُب . وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى كَرَاهَة صَلَاة لَا سَبَب لَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَات " انتهى .
واختلف أهل العلم في الصلوات ذوات الأسباب كتحية المسجد وسنة الوضوء ، فمنهم من جوز فعلها في أوقات النهي ، ومنهم من منع ذلك ، والراجح الأول ، والله أعلم .
انظر جواب السؤال رقم : (81978) .
ثانيا :
ما ورد في الأحاديث من كون النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد العصر في
بيته ، ويداوم على ذلك : صحيح ثابت أيضا ؛ فروى البخاري (591) ، ومسلم (835) عن
عَائِشَة رضي الله عنها قالت : ( مَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدِي قَطُّ ) .
وفي رواية لهما : ( صَلَاتَانِ مَا تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي قَطُّ ، سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً : رَكْعَتَيْنِ
قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ) .
وفي رواية للبخاري (590) عنها رضي الله عنها قَالَتْ: ( وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ ،
مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى
ثَقُلَ عَنِ الصَّلاَةِ ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا -
تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ - وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا ، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ ،
مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِه ِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ
عَنْهُمْ ) .
وهذا كله محمول على أنه كان
من خصائصه صلى الله عليه وسلم ؛ فقد فاتته الركعتان بعد الظهر ، فصلاهما بعد العصر
، ثم أثبتهما ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة أثبتها .
روى البخاري (1233) ، ومسلم (834) عن أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت :
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهَا - يعني
الركعتين بعد العصر - ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى العَصْرَ ،
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ ،
فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الجَارِيَةَ ، فَقُلْتُ : قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ :
تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ
هَاتَيْنِ ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا ؟ فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ ، فَاسْتَأْخِرِي
عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الجَارِيَةُ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : ( يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ ، سَأَلْتِ عَنِ
الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْس
ِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، فَهُمَا
هَاتَانِ ) .
وروى مسلم (835) عن أبي سَلَمَةَ ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا
بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَقَالَتْ : ( كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ
إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا ، أَوْ نَسِيَهُمَا ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ،
ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا ) .
وعلى ذلك : فإنه يشرع لكل أحد
قضاء راتبة الظهر ونحوها بعد العصر ، إذا فاتت لعذر .
وأما الاستدامة على صلاة الركعتين في هذا الوقت : فهي من خصائصه ، صلى الله عليه
وسلم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَات مَنْ أَجَازَ التَّنَفُّل بَعْدَ الْعَصْر
مُطْلَقًا ، مَا لَمْ يَقْصِد الصَّلَاة عِنْدَ غُرُوب الشَّمْس ، وَأَجَابَ عَنْهُ
مَنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَة : بِأَنَّ فِعْلَهُ هَذَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز
اِسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنْ الرَّوَاتِب مِنْ غَيْر كَرَاهَة ، وَأَمَّا
مُوَاظَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصه
، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَة أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْر
وَيَنْهَى عَنْهَا , وَيُوَاصِل وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَال " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
، وَرِوَايَة أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَة فِي نَحْو هَذِهِ الْقِصَّة وَفِي
آخِرِهِ " وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاة أَثْبَتَهَا " رَوَاهُ مُسْلِم ، قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : الَّذِي اِخْتَصَّ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُدَاوَمَة عَلَى ذَلِكَ لَا أَصْلُ الْقَضَاء " انتهى .
"فتح الباري" (2/64) . وينظر : "عمدة القاري" (5/ 85) .
وقد سئل علماء اللجنة
الدائمة عن هذه الأحاديث ، فأجابوا :
" لا تجوز صلاة النافلة بعد العصر ؛ لأنه وقت نهي ، وما فعله الرسول صلى الله عليه
وسلم في الأحاديث المذكورة هو قضاء لراتبة الظهر التي فاتته - ، وداوم عليها صلى
الله عليه وسلم ؛ لأنه كان إذا عمل عملا داوم عليه ، وهذا خاص به صلى الله عليه
وسلم ، لكن تجوز الصلاة بعد العصر إذا كانت من ذوات الأسباب ؛ كتحية المسجد ، وصلاة
الكسوف ، وركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح ، وصلاة الجنازة ؛ للأحاديث الواردة
في ذلك " انتهى .
"فتاوى اللجنة الدائمة" (6/ 173-174) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" ليس هناك سنة بعد العصر ، فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد
العصر حتى تغيب الشمس ، إلا لمن عليه فوائت ، هذا يقضيها ولو بعد العصر لعموم قوله
- صلى الله عليه وسلم -: ( من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك )
متفق عليه ، فلو تذكر بعد العصر أن عليه الظهر نسيها : صلاها، أو عليه الفجر نسيها
: صلاها ، أو غير ذلك ، وهكذا لو أن إنسانا دخل المسجد أو طاف بعد العصر في مكة ،
صلى تحية المسجد ، وصلى ركعتي الطواف ، وهكذا لو كسفت الشمس بعد العصر ، هذه من
ذوات الأسباب تصلى بعد العصر .
أما سنة راتبة بعد العصر فلا ، إلا خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد صلى
بعد العصر ركعتين بسبب أنه شغل عنها بعد الظهر ، ثم أثبتها ، وسئل عنها : هل
نقضيهما ؟ قال : لا . وأخبرت عائشة أنه أثبتها ، كان يصليها بعد العصر .
هذا شيء خاص به عليه الصلاة والسلام " انتهى.
"فتاوى نور على الدرب" (10/ 318) .
والله تعالى أعلم .
تعليق