الحمد لله.
ورد التعوذ من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال في عدة أحاديث منها :
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ . فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ : مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ ) رواه البخاري ( 832 ) ، ومسلم ( 589 ) .
و"فِتْنَة الْمَحْيَا" : هي الفتن التي يلاقيها المسلم في حياته ، فقد يمتحن الإنسان بدواعي المعصية ، أو البدعة ، أو حتى الكفر – نسأل الله تعالى أن ينجينا من الفتن – وهذا الدواعي إما أن تكون من الشبهات ، أو الشهوات .
وأما فِتْنَة الْمَمَاتِ :
فيمكن أن يكون المراد بها : ما يعرض للمسلم عند احتضاره ، وقرب مماته، فقد يعرض له
الشيطان في آخر لحظات حياته ، يحاول أن يضله ، فسميت فتنة الممات لقربها من الموت ،
وكذا فتنة عذاب القبر ؛ فالإنسان يفتن في قبره .
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
... وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ - أَوْ
قَرِيبَ مِنْ - فِتْنَةِ الدَّجَّالِ - لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ
أَسْمَاءُ- يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ : مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ الْمُوقِنُ ، لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ
أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ : هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، جَاءَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا ، فَيُقَالُ :
نَمْ صَالِحًا ، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُؤْمِنًا ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ
- أَوِ الْمُرْتَابُ ، لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ :
لاَ أَدْرِي ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ " رواه البخاري (
184 ) ، ومسلم ( 905 ) .
قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى :
" ( فتنة المحيا ) ما يتعرّض له الإنسان مدّة حيّاته ، من الافتتان بالدّنيا
والشّهوات والجهالات ، وأشدّها وأعظمها - والعياذ باللّه تعالى : أمر الخاتمة عند
الموت .
و( فتنة الممات ) يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت ؛ أضيفت إلى الموت لقربها منه
.
وتكون فتنة المحيا ، على هذا : ما يقع قبل ذلك في مدّة حياة الإنسان وتصرّفه في
الدّنيا ؛ فإنّ ما قارب شيئا يعطى حكمه ، فحالة الموت تشبّه بالموت ، ولا تعدّ من
الدّنيا .
ويجوز أن يكون المراد بفتنة الممات : فتنة القبر ، كما صحّ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِتْنَةِ الْقَبْرِ ( كَمِثْلِ - أَوْ
أَعْظَمِ - من فتنة الدّجّال ) " انتهى من " إحكام الأحكام " ( 1 / 294 ) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" فتنة المحيا : هي أن يفتتن الإنسان بالدنيا ، وينغمس فيها ، وينسى الآخرة ؛ وهذا
ما أنكره الله تعالى على العباد ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ،
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) .
ومن فتن الدنيا : الشبهات ؛ أن يقع في قلب الإنسان شك وجهل فيما أنزل الله على
رسوله صلى الله عليه وسلم .
أما فتنة الممات فتشمل شيئين : الأول ما يحدث عند الموت ، والثاني ما يحدث في القبر
.
فأما الأول : وهو الذي يحدث عند الموت : فإن الشيطان ، أعاذنا الله منه ، أحرص ما
يكون على إغواء بني آدم عند موته ، لأنها هي الساعة الحاسمة فيحول بين المرء وقلبه
؛ بمعنى : أنه يوقع الإنسان في تلك اللحظة فيما يخرجه عن دين الإسلام ... يحرص
حرصاً كاملاً على إغواء بني آدم في تلك اللحظة . وقد ذكروا عن الإمام أحمد رحمه
الله أنه كان حين احتضاره يغمى عليه ، فيسمعونه يقول : بعد ، بعد ، فلما أفاق ، قيل
له : يا أبا عبد الله ما قولك بعد ، بعد ؟ قال : إن الشيطان يتمثل أمامي يقول :
فُتَّني يا أحمد ، فتني يا أحمد ، فأقول له : بعد ، بعد – يعني - لم أَفُتْك ؛ لأن
الإنسان لا ينجو من الشيطان إلا إذا مات ، إذا مات انقطع عمله ، ولا رجاء للشيطان
فيه إن كان مؤمناً ، فيقول : إني أقول بعد ، بعد ؛ أي : لم أفتك لجواز أن يحصل من
الشيطان فتنة عند موت الإنسان .
ولكنني أبشر إخواني الذين آمنوا بالله حقاً ، واتبعوا رسوله صدقا ، واستقاموا على
شريعة الله ؛ أبشرهم أن الله بفضله وكرمه لن يخذلهم ، لن يختم لهم بسوء الخاتمة ...
فمن صدق مع الله ، فليبشر بالخير ...
أما الثاني مما يتناوله فتنة الموت : فهو فتنة الإنسان في قبره ، فإن الإنسان إذا
مات ودفن وتولى عنه أصحابه : أتاه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه ... " انتهى من
" فتاوى نور على الدرب " ( 6/ 2 ) .
وينظر : الفتوى رقم : ( 60191 ) .
وأما فتنة المسيح الدجال :
فهي أعظم ما يمر بالعبد من الفتن في حياته الدنيا ، بل هي أعظم فتنة خلقها الله على
وجه هذه الأرض ، نسأل الله أن يسلمنا منها ، بمنه وكرمه .
وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: " مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنْ
الدَّجَّالِ " رواه مسلم برقم (5239). وفي رواية أحمد عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ
مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ . مسند الإمام أحمد(15831)
ولمزيد الفائدة عن حقيقة الدجال طالع الفتوى رقم : (
8806 ) .
لكن هذه الفتنة ، مع عظمها ،
لا علاقة لها بقضية "الديمقراطية" وحكمها بوجه من الوجوه ، وبغض النظر عن حكم
"الديمقراطية" : وهل هي صواب أو خطأ ، إيمان أو ضلالة ؛ فإن ذلك لا مدخل له بوجه
بالدجال وفتنة ، وإنما هذا من التكلف الباطل ، وتحريف الكلم عن مواضعه .
وليس كل خطأ : هو من فتنة الدجال ، وليس كل شر وشرك : هو من فتنة الدجال ، كما لا
يخفى على عاقل .
راجع الفتوى رقم : (98134 ) .
والله أعلم .
تعليق