الحمد لله.
عَنِ الرَّبِيعِ بن أنس فِي قَوْلِهِ تعالى : ( الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) [آل عمران/1]، قَالَ :
" إِنَّ النَّصَارَى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَاصَمُوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ , وَقَالُوا لَهُ : مَنْ أَبُوهُ ؟ وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ . لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ , لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا .
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَلَدٌ إِلَّا وَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ ؟ ) ، قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لَا يَمُوتُ , وَأَنَّ عِيسَى يَأْتِي عَلَيْهِ الْفَنَاءُ ؟ ) ، قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَرْزُقُهُ ؟ ) ، قَالَ : بَلَى .
قَالَ : ( فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؟ ) ، قَالُوا : لَا .
قَالَ : ( أَفَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ؟ ) ، قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : ( فَهَلْ يَعْلَمُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا مَا عُلِّمَ ؟ ) ، قَالُوا : لَا .
قَالَ : ( فَإِنَّ رَبَّنَا صَوَّرَ عِيسَى فِي الرَّحِمِ كَيْفَ شَاءَ , فَهَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ ؟ ) ، قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَبَّنَا لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ ، وَلَا يُحْدِثُ الْحَدَثَ ؟ ) ، قَالُوا : بَلَى.
قَالَ : ( أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِيسَى حَمَلَتْهُ امْرَأَةٌ كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَمَا تَضَعُ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا , ثُمَّ غُذِّيَ كَمَا يُغَذَّى الصَّبِيُّ , ثُمَّ كَانَ يَطْعَمُ الطَّعَامَ ، وَيَشْرَبُ الشَّرَابَ ، وَيُحْدِثُ الْحَدَثَ ؟ ) ، قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : ( فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا كَمَا زَعَمْتُمْ ؟ )
قَالَ : فَعَرَفُوا ثُمَّ أَبَوْا إِلَّا جُحُودًا , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) [آل عمران/1) " .
رواه الطبري في " جامع البيان " (5/174)، وابن أبي حاتم في " التفسير " (2/585) بالإسناد السابق للحديث الأول نفسه ، ومنه تعلم أيضا أنه حديث ضعيف الإسناد كما سبق .
غير أن ضعف الإسناد هنا لا يعني بطلان ما ورد في المتن ، بل معناه صحيح مؤكد بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة .
سُئِلَ شيخ الإسلام ابن تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ " عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إلَيْهِ ؛ وَقَالَ الْآخَرُ: بَلْ رَفَعَهُ إلَيْهِ حَيًّا. فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ ؟ وَهَلْ رَفَعَهُ بِجَسَدِهِ أَوْ رُوحِهِ أَمْ لَا ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى هَذَا وَهَذَا ؟ وَمَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ ؟" .
فَأَجَابَ:
" الْحَمْدُ لِلَّهِ ، عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيٌّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " يَنْزِلُ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ " أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ الدَّجَّالَ ". وَمَنْ فَارَقَتْ رُوحُهُ جَسَدَهُ لَمْ يَنْزِلْ جَسَدُهُ مِنْ السَّمَاءِ وَإِذَا أُحْيِيَ فَإِنَّهُ يَقُومُ مِنْ قَبْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ الْمَوْتَ؛ إذْ لَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمَوْتَ لَكَانَ عِيسَى فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ وَيَعْرُجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ ، فَعُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ خَاصِّيَّةٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَلَوْ كَانَ قَدْ فَارَقَتْ رُوحُهُ جَسَدَهُ لَكَانَ بَدَنُهُ فِي الْأَرْضِ كَبَدَنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ ؛ فَقَوْلُهُ هُنَا: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ رَفَعَ بَدَنَهُ وَرُوحَهُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَنْزِلُ ، بَدَنُهُ وَرُوحُهُ؛ إذْ لَوْ أُرِيدَ مَوْتُهُ لَقَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ؛ بَلْ مَاتَ...
وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ قَابِضُك أَيْ قَابِضُ رُوحِك وَبَدَنِك ، يُقَالُ: تَوَفَّيْت الْحِسَابَ وَاسْتَوْفَيْته .." انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/323) .
وقد سبق تفصيل أدلة نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان في الأرقام الآتية : (43148) ، (137821) ، (218350) ، (110592) .
وأما حوار نبينا صلى الله عليه وسلم مع وفد النصارى ، فقد نقله العلماء في كتبهم من غير نكير ، كابن تيمية في " الجواب الصحيح " (1/196)، وابن حجر في " العجاب " (2/657)، وأكثر كتب التفسير والسير والتاريخ ، الأمر الذي يدل على قبول المعنى والمضمون ، وأما ثبوت النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو محل تضعيف كما سبق .
والله أعلم .
تعليق