الحمد لله.
شأن الصلاة في الإسلام عظيم ، فهي أحد أركان الدين العظام ، وهي فرقان ما بين الإيمان والكفران ، ولذلك فالمحافظة عليها من علامات الإيمان ، ولا يقال عنها إنها من ظواهر الإسلام فقط ، والالتزام بها والمحافظة عليها من الالتزام الظاهري ، بل إن الالتزام بها التزام بشعبة من أعظم شعب الإيمان ، وعمل هو أفضل أعمال أهل الإيمان ، بعد الشهادتين .
ونحن لا ننكر - مع ذلك - أن كثيرا من المسلمين يقع في الشرك مع كونه يصلي ، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجة (4204) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: " خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ، فَقَالَ: ( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟) ، قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: ( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي ، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ)
حسنه الألباني في "صحيح ابن ماجة " .
فقد يقع المرء في الشرك وهو يصلي ، من حيث يدري ، أو لا يدري !!
وقد سبق في جواب السؤال رقم
: (183713) أن الإنسان إذا أراد بعمله
الصالح الدنيا ولم تخطر الآخرة له على بال : لم يصح عمله ، ولم يقبل منه ، حتى يريد
به وجه الله .
أما إذا عمل العمل وأراد به حسنة الدنيا والآخرة ، فلا حرج عليه في ذلك .
فمن صلى يرائي ، أو صلى ليقال عنه : فلان مصل ، ويعرف بالثناء الحسن في الناس ، أو
صلى ليتقرب إلى الله ليستجيب له في حاجته ، فلما قضيت ترك الصلاة ، أو صلى ليتحسن
حاله ، فلما لم يتحسن حاله ترك الصلاة : فهذا لم يعمل العمل لله ، وقد روى الإمام
أحمد (20715) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ
وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ ، فَمَنْ
عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ
نَصِيبٌ ) صححه الألباني في "صحيح الجامع" (2825) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" من صلى ليأخذ ، أو أذَّن ليأخذ : فهذا ليس له أجر في الآخرة ؛ ذلك لأنه أراد
بعمله الدنيا ، فلا يكون له إلا ما أراد " .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب " (8/ 2) بترقيم الشاملة .
وأصل ذلك أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحا ، وابتغي به وجهه ، وقد
روى مسلم (2985) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا أَغْنَى
الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ،
تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الإخلاص لله في العبادة معناه : ألا يحمل العبدَ إلى العبادة إلا حب الله تعالى
وتعظيمه ورجاء ثوابه ورضوانه ، ولهذا قال الله تعالى عن محمد رسول الله صلى الله
عليه وعلى آله وسلم: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) الفتح/ 29 " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (21/ 19) .
فالواجب على المسلم أن يتوجه
بقلبه وعمله إلى الله تعالى ، يقصد بعمله وجه الله والدار الآخرة ، ويرجو أن يوفقه
الله في أمر دنياه ، فيستعين عليها بأمر دينه ، كما قال تعالى : (وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) البقرة/ 45 ، قال ابن كثير رحمه الله :
" يأمر الله تَعَالَى عَبِيدَهُ ، فِيمَا يُؤَمِّلُونَ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ " انتهى من "تفسير ابن
كثير" (1/ 251) .
فالمؤمن يعمل لله ، ثم تأتي
الدنيا تبعا ، وهذا من ثمرة إخلاصه وعمله ، لأن الله يجازيه بحسنتي الدنيا والآخرة
، كما قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النحل/ 97
قال ابن كثير رحمه الله :
" هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا بِأَنْ يُحْيِيَهُ
اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا ، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا
عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ
الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (4/ 601) .
وقال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )
الطلاق/ 2، 3 .
وروى الترمذي (2465) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ
جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا
وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا
إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ ) . وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
أما من يعمل العمل يريد به
أجر الدنيا ، فإنه لا يصيب من الدنيا إلا ما كتبه الله له ، ويرجع بعمله خاسئا وهو
حسير ، لأنه لم يرد به وجه الله ، وكل شيء أريد به غير وجه الله فهو باطل ، قال
تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ
لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ) الإسراء/ 18، 19 .
وقال عز وجل : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) الشورى/ .20
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" مَنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ صَالِحَةً ، وَعَمَلُهُ عَمَلًا صَالِحًا لِوَجْهِ
اللَّهِ ، وَإِلَّا كَانَ عَمَلًا فَاسِدًا ، أَوْ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ ،
وَهُوَ الْبَاطِلُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) .
وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ مِنْ جِنْسِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (28/ 169) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" مَنْ أَرَادَ بِعَمَلِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ ، وَنَوَى شَيْئًا غَيْرَ
التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَطَلَبَ الْجَزَاءَ مِنْهُ ، فَقَدْ أَشْرَكَ فِي
نِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ .
وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُخْلِصَ لِلَّهِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ
وَإِرَادَتِهِ وَنِيَّتِهِ ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ
الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كُلَّهُمْ ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ
غَيْرَهَا، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ.
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آلِ عِمْرَانَ/ 85 . وَهِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ
الَّتِي مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ أَسَفَهِ السُّفَهَاءِ " .
انتهى من "الجواب الكافي" (ص 135) .
فيقال لهؤلاء الذين يصلون لقضاء حاجاتهم الدنيوية : اتقوا الله في دينكم ، واتقوا الله في أنفسكم ، واعلموا أن العامل إذا عمل لوجه الله أصاب نعمة الدنيا والآخرة ، وإذا عمل لغير وجه الله ، رغبة في متاع الدنيا الزائل فإنه لا يصيب منها إلا ما قدره الله له ، ولا يعود عمله عليه إلا بالخسار في الدنيا والآخرة .
ويقال لمن يرتد عن دينه أو
يترك الصلاة والعبادة والطاعة إذا لم يحصل على مراده: احذر أن تكون ممن يعبد الله
على حرف ، إن أصابه خير اطمأنت نفسه ، وإن أصابه شر ارتد ونكص على عقبيه ، قال الله
تعالى :(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ
خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) الحج/11 .
قال الشيخ السعدي ، رحمه الله :
" أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان ، لم يدخل الإيمان قلبه ، ولم تخالطه بشاشته،
(فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) أي: إن استمر رزقه رغدا ، ولم يحصل له
من المكاره شيء ، اطمأن بذلك الخير ، لا بإيمانه ، فهذا، ربما أن الله يعافيه، ولا
يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه ، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) من حصول
مكروه، أو زوال محبوب (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أي: ارتد عن دينه ، (خَسِرَ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ) " .
انتهى من " تفسير السعدي" (ص 534) .
وينظر للاستزادة جواب السؤال رقم : (14258)
، (110715) .
والله تعالى أعلم .
تعليق