الحمد لله.
أولا :
أخفى الله علم الساعة على جميع خلقه ، وإنما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأشراطها ، قال تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الأعراف/ 187.
ولما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام : (مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ) رواه البخاري (50) ، ومسلم (9) .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة ، ولكنه يعلم أشراطها .
ثانيا :
ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى من قيام الساعة ، كحديث صلاة الكسوف .
روى البخاري (1059) ، ومسلم (921) عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ: " خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا، يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ ، فَأَتَى المَسْجِدَ ، فَصَلَّى بِأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ رَأَيْتُهُ قَطُّ يَفْعَلُهُ ، وَقَالَ: ( هَذِهِ الآيَاتُ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ ، لاَ تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ).
وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال الوارد في السؤال بعدة أجوبة :
منها : أن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يخبر عن نفسه بأنه يخشى أن تقوم الساعة ، وإنما هذا ظن ظنه أبو موسى رضي الله عنه ، ولا يلزم أن يكون الأمر كما ظنه .
ومنها : أنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن في ذلك الوقت قد أوحى إليه بجميع علاماتها ، وإنما أوحي إليه ببعضها كبعثته صلى الله عليه وسلم ، فلم يستبعد وقوعها في حياته صلى الله عليه وسلم . فلما أوحي إليه بسائر علاماتها أخبر أنها لا تقوم حتى تتحقق أشراطها قبل قيامها . كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) رواه البخاري (2222) ، ومسلم (155) .
وكقوله صلى الله عليه وسلم : ( اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ : مَوْتِي ، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ العَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا ) رواه البخاري (3176).
ومنها : أن المراد بخوفه من قيام الساعة هو أن يكون ذلك مقدمة لها وعلامة من علاماتها ، ثم تأتي سائر علاماتها متتابعة ... وقيل غير هذا .
قال النووي رحمه الله :
" قَوْلُهُ : (فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ) هَذَا قَدْ يُسْتَشْكَلُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ السَّاعَةَ لَهَا مُقَدِّمَاتٌ كَثِيرَةٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا ، وَلَمْ تَكُنْ وَقَعَتْ كَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجِ الدَّابَّةِ وَالنَّارِ وَالدَّجَّالِ وَقِتَالِ التُّرْكِ وَأَشْيَاءَ أُخَرَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا قَبْلَ الساعة ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ:
أَحَدِهَا: لعل هذا الكسوف قَبْلَ إِعْلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ.
الثَّانِي: لَعَلَّهُ خَشِيَ أَنْ تَكُونَ بَعْضَ مُقَدِّمَاتِهَا.
الثَّالِثِ: أَنَّ الرَّاوِيَ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ظَنِّهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَشِيَ ذَلِكَ حَقِيقَةً " انتهى .
وقال السندي رحمه الله :
" (يخْشَى أَن تكون السَّاعَة) : إما لِأَن غَلَبَة الخشية والدهشة وفجأة الْأُمُور الْعِظَام يذهل الْإِنْسَان عَمَّا يعلم.....
وَقيل: المُرَاد قَامَ فَزعًا كالخاشي أَن تكون السَّاعَة ، وَقيل: لَعَلَّ هَذَا الْكُسُوفَ كَانَ قَبْلَ إِعْلَامِ النَّبِيِّ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الْأُمُور الْمَعْلُوم وُقُوعهَا بَينه وَبَين السَّاعَة، وَقيل: هَذَا ظن من الرَّاوِي أَنه خشِي، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم خشِي ذَلِك حَقِيقَة " .
انتهى من "حاشية السندي على سنن النسائي" (3/ 153) .
وانظر لمزيد الفائدة الفتوى رقم : (178416).
والله تعالى أعلم .
تعليق