الحمد لله.
روى الترمذي (2058) وحسنه ، والنسائي (5494) ، وابن ماجة (3511) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الجَانِّ وَعَيْنِ الإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ المُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا " وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
وقوله : ( فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا) لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كل ما كان يتعوذ به من التعوذات الشرعية الدالة على التوحيد وحسن الظن بالله والثقة به ؛ اكتفاء بالمعوذتين .
ولكنه محمول على أن التعوذ بالمعوذتين أولى من غيرهما ، وقد روى أبو داود (1463) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ : " بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجُحْفَةِ، وَالْأَبْوَاءِ، إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ ، وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، وَيَقُولُ: (يَا عُقْبَةُ ، تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا) " .
وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
فلما كانتا أفضل ما تعوذ به المتعوذون كانتا أولى من غيرهما ، لأنهما من القرآن ، والقرآن أفضل الذكر .
قال الحافظ رحمه الله في حديث الترجمة :
" وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : أَنْ يَكُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا، بَلْ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى " انتهى من" فتح الباري" (10/ 195) .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن
قوله : (فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا) يدل على أنهما
أولى من غيرهما في التعوذ من الجان وعين الإنسان خاصة ، لا في مطلق الاستعاذة .
قال الشوكاني رحمه الله :
" فِي الحَدِيث دَلِيل على أن الِاسْتِعَاذَة بِهَاتَيْنِ السورتين : أولى من
الِاسْتِعَاذَة بِغَيْرِهِمَا، لَكِن لَا فِي مُطلق الِاسْتِعَاذَة ، بل فِي
التَّعَوُّذ من الجان وَعين الْإِنْسَان " .
انتهى من"تحفة الذاكرين" (ص 415) .
ومما يدل أيضا على أنه صلى
الله عليه وسلم لم يترك الاستعاذات الشرعية ، اكتفاء بالمعوذتين : كونه صلى الله
عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين بغيرهما.
فروى البخاري (3371) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ
وَيَقُولُ : ( إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ :
أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ ،
وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ ) ".
وقد قال غير واحد من أهل العلم : إن سورة الفلق – وكذا الناس – نزلتا بمكة .
قال القرطبي رحمه الله :
" سورة " الفلق" مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ
وَجَابِرٍ. وَمَدَنِيَّةٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ " انتهى
من"تفسير القرطبي" (20/ 251) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
" اخْتُلِفَ فِيهَا أَمَكِّيَّةٌ هِيَ أَمْ مَدَنِيَّةٌ ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ
زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ:
مَكِّيَّةٌ، وَرَوَاهُ كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ
مَدَنِيَّةٌ، وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ، لِأَنَّ رِوَايَةَ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَقْبُولَةٌ ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "
انتهى من "التحرير والتنوير" (30/ 624) .
وانظر: "زاد المسير" (4/ 510) ، "فتح القدير" (5/642) .
فعلى القول بأنها مكية يكون
النبي صلى الله عليه وسلم قد عوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما بغير المعوذتين بعد
نزولهما ، فإنهما ولدا بالمدينة ، ولد الحسن سنة ثلاث من الهجرة ، وولد الحسين سنة
أربع .
انظر : "سير أعلام النبلاء" (4/ 326) ، "الإصابة" (2/ 60) ، (2/68) ، "تهذيب
التهذيب" (2/ 345) .
تعليق