الاثنين 29 جمادى الآخرة 1446 - 30 ديسمبر 2024
العربية

يشك في أن الترجيح في علم مصطلح الحديث مجرد احتيال

226342

تاريخ النشر : 28-12-2014

المشاهدات : 6793

السؤال


يوسوس لي الشيطان أن الترجيح في علم مصطلح الحديث مجرد احتيال ؛ للادعاء أنه لا يوجد تعارض أو تناقض بين الأحاديث , وأن النصارى مثلا يمكن أن يسلكوا نفس المسلك لنفي التعارض الذي في دينهم ، فنكون سواءً ؟

الجواب

الحمد لله.


بداية نسأل الله تعالى لنا ولك شفاء الصدر ، والوقاية من شر الوسواس الخناس ، إنه سبحانه تعالى ولي ذلك والقادر عليه .
ثم إن تعبيرك عن ما يجول بخاطرك بأنه " وسواس " وقع في محله ؛ لأن مَثَل سؤالك مَثَلُ من يقدِمُ على قَصرٍ مَشيد فيه مِن أنواع الإبداع المعماري ، والهندسة الفنية ، والتصاوير الرائعة ، فيقف أمامه ويقول : في نفسي شيء مِن هذا البناء العظيم ، لعله وهم أو خيال يتراءى لي !!
بل نعتقد أن وسواسك في شأن علوم الحديث أبشع وأشنع ، فعلوم الحديث وقواعد الترجيح فيها نتاج جهود مئات السنين ، وآلاف الأشهر والأيام من أعمار المحدثين ، الذين جابوا الأرض طولا وعرضا ، وفتشوا عن الرواة واحدا واحدا ، ودونوا أدق التفاصيل ، حتى في الأسماء والألقاب والكنى ، ووفاة كل راو ، وشيوخه وتلاميذه ، وسفره وتنقله ، وهل كان يحمل كتبه أم يحدث من حفظه ، حتى عنايته بكتابه دوَّنها المحدثون في ترجمته ، في أدق التفاصيل التي يمكن أيضا أن تخل بمروءة الراوي وديانته ، كل ذلك لعشرات الآلاف من الرواة ، حتى إن كتابين فقط من كتب التراجم ، هما ( تهذيب الكمال وميزان الاعتدال ) يشتملان على نحو من عشرين ألف راو من رواة الحديث ، فيها تفصيل الكلام عن جميع ما سبق وأكثر منه .
ليس ذلك فحسب ، بل لو وقفت على مئات الكتب المصنفة في التقعيد لعلوم الحديث ، والتدقيق في الضوابط والمعايير التي من خلالها يحكم العلماء على المرويات ، لقصر عمرك عن استيعابها ، والإحاطة بما اشتملت عليه من دقائق العلوم ؛ ثم بعد ذلك يبقى في نفسك شك ووسواس أنها مجرد أهواء ، وليست علوما منضبطة ، وتظن أن النصارى يمكنهم أن يقابلوا ما نقول ، بمثله ، أو بقول من جنسه !!
ولعلنا ننصحك هنا بأن أفضل ما تعالج به وساوسك أن تقف على الأمثلة العملية ، وتنظر بنفسك في الطريقة التي يتم الحكم بها على الروايات ، لتعلم أنه لا يمكن لباحث أن يأتي على حديث مكذوب فيجعل منه حديثا صحيحا ثابتا ، أو على حديث صحيح ، فيدعي أنه موضوع مكذوب ، فالدعاوى إن لم يقم عليها أصحابها براهينهم وأدلتهم فهي دعاوى ساقطة ، لا تصدر إلا عن جاهل متطفل على هذا العلم ، ومثله لا يَعتبر به أهل العلم ولا أصحابُ التخصص ، ولا تجد أقواله بحمد الله محل قبول بين الناس .
ويمكنك في سبيل تحقيق ذلك أن ترجع إلى كتاب " الموضوعات " مثلا للإمام ابن الجوزي ، وتقرأ فيه ، وتنظر بشاعة الكذب في معظم الأحاديث التي سطرها في كتابه ، والراوي الذي افتعلها ووضعها ، وتتساءل بعد ذلك أين هو الهوى والتشهي ؟!!
كما ندعوك إلى القراءة في كتاب " الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث " للعامري (ت1143هـ)، وكتاب " سلسلة الأحاديث التي لا أصل لها " لسليم الهلالي ، لتنظر كيف يمكن أن يكون الحكم على حديث لا أصل له إطلاقا ، ولم يُروَ في كتب السنة ، وفي الوقت نفسه يستعمله الطاعنون في الطعن على الإسلام ، وإنما هو خيال ووهم من جهتهم ، يظنونه حديثا وليس بحديث ، مثل ( شاوروهن وخالفوهن )، ( كنت كنزا لا أعرف فخلقت الخلق )، ( يوم صومكم يوم نحركم ) ( ريق المؤمن شفاء )، ( الزحمة رحمة ) .
ولكي تزيل عن نفسك هذا الوسواس أيضا حاول أن تضع لنا قواعد الترجيح المقنعة من عقلك وفهمك ، وأن تسجل لنا ما تراه بعيدا عن الانحياز والاصطناع ، بل تراه أقرب إلى العقل والموضوعية ، وأرسل لنا قواعد الترجيح تلك ، كي ندرسها ونعلق عليها ، ونقارن بينها وبين ما دون في كتب علماء الحديث ، ولا تظن أننا لا نقصد هذه النصيحة ، بل نراها فعلا أنفع في علاج الوسواس ، فمثل هذه الشكوك لا تزول إلا بالعلاج العملي ، سواء كان سلوكا عقليا أم سلوكا أخلاقيا .
ألا ترى أنك لا يصيبك الوسواس عندما تذهب إلى الطبيب طلبا للعلاج ، بل تسلم له بوصفته العلاجية ، وتشتري الدواء من غير تردد ولا وجل ، فلماذا ينتابك العلاج في القضايا النظرية النقدية ؟!
السبب واضح ، هو أن القضايا العقلية إن لم تمارس على المستوى الفكري والذهني ، ولم يعانِ المطلع عليها وُعورة مسالكها ، وطرق تأصيلها : فإنه سيبقى يحوم في أوهام النفس وخيالات الذهن ، تماما كذلك الذي يقرأ عن عالم البحار وعجائب الخلق فيه ، وهو لم ير بعينه البحر ، ولا شاهد شيئا من خلقه .
لو نظرت مثلا في حديث ورد من طريق الإمام مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة ، عن نافع مولى الصحابي الجليل ابن عمر ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كحديث ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) رواه البخاري (645) ، ومسلم (650)، أي مجال يتركه لك هذا الإسناد لتتردد !! وماذا يتطلب العقل السليم أكثر من ذلك ليصدق ويؤمن !! وكيف لا يرجح على إسناد آخر فيه راو كذاب أو في إسناده سقط وانقطاع ؟!
تَفكَّر ماذا تريد بعد ذلك ، إن كنت تبحث عن طريقة أكثر إقناعا بإثبات هذا الحديث وترجيحه على غيره على سبيل المثال ، فتأمل فيها ، وخاطبنا بها .
وإن كنت تجد مثل هذا الإسناد في الرواية عن نبي غير نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ، فدلنا عليه ، وكلنا آذان مصغية .
نحن دائما ما نقدم النصيحة لأصحاب هذه الوساوس : أن بداية العلاج معرفتك بأن ما أصابك مجرد وسواس ، وليس نظرا عقليا ولا تأملا فكريا ، وإذا أردت أن تميز بين الوسواس والنظر العقلي ، فتأمل في الطريقة التي أدت إلى تلك الأفكار ، فإذا كانت هي القراءة والتعلم والاستماع إلى أهل الاختصاص ، وقضاء السنوات الطوال في البحث والنظر ، فما ينتج عن ذلك هو ـ في الغالب الأعم : أفكار حقيقية تحتاج إلى حوار ومراجعة .
أما إذا تشكلت تلك المشاعر في نفسك وقلبك تلقائيا ، من غير تعلم حقيقي ولا دراسة مفصلة مختصة ، بل بخواطر مجردة ، ازدادت بفعل كثرة الخوض فيها ، فهذه هي الوساوس التي تفسد على المرء دنياه وآخرته ، إن لم يتداركها بالحسم والقطع ، وإن لم يتدارك نفسه بالاشتغال بالنافع من العلم والعمل ، ويترك عنه ما قصر ذهنه عن فهمه ، ويملأ وقته بالإنتاج والتقدم والنجاح .
نسأل الله لنا ولك الثبات والهداية .
أخيرا : يرجى الاطلاع على فتاوى منشورة في الموقع سابقا ، فيها بعض الأمثلة العملية التي تعينك على العلاج بإذن الله ، من ذلك : (201396) ، (204985) .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب