الحمد لله.
أولا :
ينبغي أن نعلم أن العلم الشرعي إنما يعتني بما فيه نفع للناس في دنياهم وآخرتهم ، أمّا ما لا نفع فيه فلا خير في الاهتمام به ، والتنقيب عنه .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام : أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ، ثم يجتهد في فهم ذلك ، والوقوف على معانيه ، ثم يشتغل بالتصديق بذلك ، إن كان من الأمور العلمية ، وإن كان من الأمور العملية ، بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر ، واجتناب ما ينهى عنه ، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك ؛ لا إلى غيره . وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان ، في طلب العلم النافع من الكتاب، والسنة .
فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع ، وقد لا تقع ، فإنّ هذا مما يدخل في النهي ، ويثبط عن الجد في متابعة الأمر " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/225) .
والنصوص الشرعية التي جاءت
بذكر فتن آخر الزمان وأشراط الساعة ومنها خروج الدجال ، إنما وردت لما في ذكر ذلك
من نفع وخير للمسلمين ، حتى يتأهبوا لهذه الفتن بتحصيل الطاعات قبل حلولها ، وكثرة
التعوذ من شر هذه الفتن ، وتحصيل العلم الذي يساعد على النجاة منها .
قال القرطبي رحمه الله تعالى :
" قال العلماء رحمهم الله تعالى: والحكمة في تقديم الأشراط ، ودلالة الناس عليها :
تنبيه الناس من رَقْدَتِهم ، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة ، كي لا
يباغَتوا بالحول بينهم وبين تدارك الفوارط منهم ، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور
أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم ، وانفطموا عن الدنيا ، واستعدوا للساعة الموعود بها
، والله أعلم " .
انتهى من " التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة " (3/1217) .
فإذا خرج الناس عن حد الاعتدال في الكلام في هذه الفتن وأشراط الساعة ، وكثر البحث عن تفاصيلها وجزئياتها ، ولم يكتفوا بما ورد به الوحي يصبح هذا من العلم المذموم ، لأنه لا نفع فيه، بل يهدر الأوقات ويكثر بسببه الجدال والقيل والقال .
ثانيا :
حقيقة الدجال قبل خروجه هو من الأمور الغيبية التي يرجع لمعرفتها إلى نصوص الوحي ،
ولا يجوز التقول فيها بغير علم .
قال الله تعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )الإسراء/36 .
ولهذا على المسلم ألا يلقي سمعه لكل قائل ومُحَدِّثٍ بالعجائب ، بل عليه أن يتأكد
هل ما يقوله هذا القائل من الأمور الغيبية ، مما ورد به النص الصحيح ، أو من محض
آرائه وتفكيره ؟ فإذا كان من الأول قبله وإلا أعرض عنه ، لأن الغيب لا يدرك إلا
بالوحي .
ثالثا :
وقع تنازع بين السلف في شأن الدجال من يكون ؟ وذلك بسبب قصة ابن الصياد [ وهو أحد
الكفار من يهود المدينة النبوية] :
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، قَالَ : " رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّيادِ الدَّجَّالُ ، قُلْتُ : تَحْلِفُ
بِاللَّهِ ؟ قَالَ : إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رواه البخاري (7355) ، ومسلم (2929) .
وقد سبق في الموقع بسط قصته في الفتوى رقم : (8301)
فراجعها للأهمية .
والظاهر من قصة ابن الصياد
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع بكونه هو الدجال ، بل رأى فيه بعض أماراته فقط
.
قال النووي رحمه الله تعالى :
" قال العلماء وقصته مشكِلة ، وأمره مشتبه ، في أنه : هل هو المسيح الدجال المشهور
، أم غيره ؟ ولاشك في أنه دجال من الدجاجلة .
قال العلماء : وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح
الدجال ولاغيره ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال ، وكان في ابن صياد قرائن محتملة ،
فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ، ولهذا قال لعمر
رضي الله عنه : إن يكن هو ، فلن تستطيع قتله " .
انتهى من " شرح صحيح مسلم " (18/46) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" والمقصود أن ابن صياد ليس بالدجال الذي يخرج في آخر الزمان قطعا ؛ لحديث فاطمة
بنت قيس الفهرية ، فإنه فيصل في هذا المقام . والله أعلم ".
انتهى من " البداية والنهاية " (19/127).
وحديث فاطمة بنت قيس الفهرية رضي الله عنها هو الآتي :
عن فَاطِمَة بِنْت قَيْسٍ ، أُخْت الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ - وَكَانَتْ مِنَ
الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ – ".... سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي ، مُنَادِي
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُنَادِي : الصَّلَاةَ جَامِعَةً
، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي تَلِي ظُهُورَ
الْقَوْمِ . فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَاتَهُ ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَقَالَ : ( لِيَلْزَمْ
كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ )، ثُمَّ قَالَ : ( أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ ؟ )
، قَالُوا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : ( إِنِّي وَاللهِ مَا
جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ ، لِأَنَّ
تَمِيمًا الدَّارِيَّ ، كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا ، فَجَاءَ فَبَايَعَ
وَأَسْلَمَ . وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ
مَسِيحِ الدَّجَّالِ ، حَدَّثَنِي ؛ أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ ،
مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ ، فَلَعِبَ بِهِمِ الْمَوْجُ
شَهْرًا فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى
مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا
الْجَزِيرَةَ ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ ، لَا
يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ ، مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ ، فَقَالُوا :
وَيْلَكِ مَا أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ : أَنَا الْجَسَّاسَةُ ، قَالُوا: وَمَا
الْجَسَّاسَةُ ؟ قَالَتْ : أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ
فِي الدَّيْرِ ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ ، قَالَ : لَمَّا
سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً ، قَالَ :
فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا ، حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ
إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا ، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا ، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ
إِلَى عُنُقِهِ ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ ، قُلْنَا
: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ ؟ قَالَ : قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي ، فَأَخْبِرُونِي
مَا أَنْتُمْ ؟ ... وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي ، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ ،
وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي
الْأَرْضِ فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا ،
كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً - أَوْ وَاحِدًا - مِنْهُمَا
اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا ، يَصُدُّنِي عَنْهَا ، وَإِنَّ
عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا )، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ
: ( هَذِهِ طَيْبَةُ ، هَذِهِ طَيْبَةُ ، هَذِهِ طَيْبَةُ - يَعْنِي الْمَدِينَةَ -
أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ ؟ ) ، فَقَالَ النَّاسُ : نَعَمْ ، (
فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ ، أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ
أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ
الشَّأْمِ ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ،
مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ) وَأَوْمَأَ
بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ ، قَالَتْ : فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رواه مسلم (2942) .
فيظهر بوضوح من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ما حكاه تميم رضي الله عنه وصدقه .
فالحاصل : أن الدجال هو على
ماورد في هذا الحديث ، وأنه مربوط وموثق بالحديد ، وهو باق على هذه الحال حتى يؤذن
له بالخروج ، وعلى هذا فهو لا يتحول ولا يتشكل بصور غيره .
والله أعلم .
تعليق