الحمد لله.
ثمة احتمالات عديدة يمكن أن تجيب على هذا التساؤل :
أولا :
أن انطباق الأوصاف الخلقية والاسمية ، لا يستلزم أبدا أن تنبعث معها في نفس صاحبها عقيدة "المهدية" ، بل إن ما وصف به المهدي من الهدى والتقى والصلاح ، سيؤدي به إلى الفرار من هذه النسبة ، ليس على سبيل التواضع فحسب ، بل من جهة النأي بالنفس عن موارد العجب والتعالي بمقامات الولاية الدينية والدنيوية على الناس ، فهذا دأب الصالحين والمصلحين ، حياتهم مشاعل نور وهداية ، وقيادتهم الناس سلطة أخلاقية تفرضها سيرتهم بين الناس ، وليست سلطة ولاية وبيعة في غالب الأحوال ، وقلوبهم أبعد ما تكون عن أن تظن بنفسها مقاما خاصا دون الناس ، أو منزلة عند الله تعالى أعلى من منازل الناس .
فقد يكون هذا هو حال مهدي آخر الزمان ، لن يمنح الفرصة لنفسه أن تطلب مقام الولاية ، وسيبدأ معها بأسباب الورع والزهد عن كل ما يتنافس حوله الناس من شؤون الدنيا .
وفي نسل آل البيت الكرام - عبر التاريخ - الكثيرون ممن يحمل اسم محمد بن عبد الله ، ويكثر فيهم أيضا قنا الأنف [ ارتفاع وسط قصبته ]، وجلى الجبهة [ أي اتساعها ]، بحكم الوصف الخلقي الوارد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتب السيرة . وقد مر بعضهم بأحداث عظام من أحداث التاريخ الإسلامي ، فلم يستوجب ذلك أن يدعي كل منهم " المهدية "، ويقبل البيعة .
بل كثيرٌ مِن مُدعي " المهدية " زورا إنما أتوا من جهة الفتنة ، والاغترار بظاهر الحال ، من الاسم أو الهيئة ، ويصادف ذلك هوى في النفس وإعجابا ، وجهلا بسنن التاريخ ، ومقاصد السنة النبوية في الحديث عن أحوال آخر الزمان ، فيؤدي بهم إلى ادعاء " المهدية " على حساب دماء الناس وأمنهم ومصالحهم ، في حين أن " المهدي " الوارد في السنة النبوية يتحقق وجوده في سياق حتمي ، تدفع إليه ظروف الواقع دفعا ، لا يملك أحد معه رفعه ولا الوقاية منه ، وليس عبر اصطناعه وادعائه ، بتكلف وتنطع ، لمجرد انطباق الاسم على الاسم ، أو الهيئة الخَلقية على ما ورد في الأحاديث .
وهذا أمر غاية في الخطورة ، أدى الغلط في فهمه وتحريه إلى أحداث عظام عبر التاريخ الإسلامي.
ثانيا :
ليس بالضرورة أن يكون المهدي قد اطلع على الأحاديث النبوية التي تبشر به ، وليس بالضرورة أنه يحفظها ويستحضرها ، فهي ليست من أركان الإيمان ، ولا من أركان العمل ، ولهذا فإن بقاءها وحفظها ، واستحضار الناس لها : ليس حتما مثبتا لحفظ الدين ، ولو عاش العبد الصالح حياته كلها بالعلم والعمل والخير ، ولم يعرف أحاديث المهدي ، ولم يطلع عليها ، لم يؤثر ذلك في صلاحه وتقواه ، ولم يستلزم نقصا في علمه وفهمه عن الله سبحانه .
ثالثا :
ومن الاحتمالات الواردة أيضا أنَّ تأخُّر المهدي عن قبول البيعة ، ورفضه لها في بادئ الأمر : يقع منه رجاءً من الله سبحانه أن يكتب له التوفيق والسداد ، والعون والرشاد ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : ( يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ ، لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا) رواه البخاري (6622) ، ومسلم (1652).
ولم يرد في الأحاديث ما يدل على معرفة المهدي بنفسه من خلال علامات آخر الزمان ، كما لم نجد فيها استدلاله بالخسف الذي يقع للجيش المتوجه إليه على " مهديته " .
ولهذا فإن جميع الاحتمالات التي ذكرناها واردة ، وقد يكون لذلك حكم ، واحتمالات أخرى ، لم ننتبه نحن إليها ؛ والناظم لها أولا وأخيرا قضاء الله سبحانه ، في كونه بمقتضى حكمته ، فهو عز وجل إذا أراد أمرا هيأ له أسبابه ، وقد قال عز وجل : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) الأنعام/18، وقال عز وجل : ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف/100، وقال جل وعلا : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) الإنسان/30.
والله أعلم .
تعليق