الحمد لله.
التقوى من ( وقى) ، وحقيقتها أن تجعل بينك وبين ما تخافه وتحذره وقاية ، قال ابن رجب الحنبلي في " جامع العلوم والحكم " (1 / 398) : " وأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه ، وقاية تقيه من ذلك ؛ وهو فعل طاعته ، واجتناب معاصيه.
وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل، كقوله تعالى: (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) [المائدة: 96] ، وقوله: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) [الحشر: 18] ، فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يُتقى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي ، قال تعالى: ( ويحذركم الله نفسه ) [آل عمران: 28] ، وقال تعالى: ( هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) [المدثر: 56] ، فهو سبحانه أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه ، لما يستحقه من الإجلال والإكرام ، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش ، وشدة البأس " انتهى.
وقال ابن القيم في " الرسالة التبوكية " (1 / 13): " وأما التقوى : فحقيقتها العمل بطاعة الله ، إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، فيفعل ما أمر الله به ، إيمانا بالأمر ، وتصديقا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه ، إيماناً بالنهي ، وخوفاً من وعيده ، كما قال طلق بن حبيب: " إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى " قالوا: وما التقوى؟ قال: " أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله , وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله " وهذا أحسن ما قيل في حد التقوى" انتهى.
وأما وصف الله تعالى للمتقين في قوله ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) الذاريات/ 15 -
17.
فليس في الآية ما يشير إلى أن قيام الليل شرط في التقوى الواجبة ؛ بل كل ما فيها أن
قيام الليل من صفات المتقين ، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه ؛ لأنه إذا كانت التقوى
فعل المأمورات وترك المنهيات ، فإن قيام الليل مما أمر الله به ، أمر استحباب ،
ولأن الصلاة من أعظم ما يعين العبد على أمور دينه .
قال تعالى : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ
إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) البقرة/ 45 .
قال السمعاني في تفسيره (1 / 74) : " استعينوا بهذين ( الصبر والصلاة ) على الدِّين
؛ لتقووا على الإقبال على الآخرة والإعراض عن الدنيا" انتهى.
وفي جانب ترك المنهيات والمحرمات خصوصاً قال الله تعالى : ( اتْلُ مَا أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ ) العنكبوت/ 45 .
يقول ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في " الاستقامة " (1 / 318) : " فَإِن
الصَّلَاة كَمَا ذكر الله تَعَالَى ( تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر ) وَهَذَا
أَمر مجرب محسوس ؛ يجد الْإِنْسَان من نَفسه أَن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء
وَالْمُنكر" انتهى.
والتقوى تنقسم إلى : تقوى واجبة ، وتقوى مستحبة .
فالتقوى الواجبة هي فعل الواجبات ، واجتناب المحرمات ؛ ثم يكون أداء النوافل ، من
الصيام ، والقيام والذكر ، من جملة التقوى المستحبة ، والكمال المستحب في الدين ،
والإيمان ، والتقوى ؛ فإن كل ذلك مما يزيد وينقص ، كما هو معتقد أهل السنة والجماعة
.
روى البيهقي في " الزهد الكبير " (964) : " أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
كَانَ يَقُولُ: لَيْسَ تَقْوَى اللَّهِ بِصِيَامِ النِّهَارِ، وَلَا بِقَيَامِ
اللَّيْلِ، وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللَّهِ
تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ ، فَمَنْ رُزِقَ
بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ إِلَى خَيْرٍ" .
فمن أتى بقيام الليل ، وصيام النهار : زاد إيمانه وتقواه .
ومن أخل بذلك ، نقص من إيمانه وتقواه ، بحسب ما نقص وضيع من ذلك ؛ فإن الإيمان يزيد
، حتى لا منتهى له ، وينقص ، حتى لا يكون منه شيء ؛ بحسب ما يجيء العبد به من
الطاعات والمعاصي .
قال الصنعاني رحمه الله :
" وأما المتقون : فإن الله تعالى بين مَن هم ، وفسرهم في صدر سورة البقرة ، حيث
قال: ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) [البقرة:2] ؛ كأنه قيل من هم؟ قال: ( الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) [البقرة:2-3] .
فوصفهم بأنهم من اتصف بهذه الصفات الست، وهي صفاتٌ مركبة من أجزاء الإسلام ، ومن
أجزاء الإيمان، كما في آية الأنفال ، حيث ذكر الله تعالى صفات المؤمنين حقاً ،
مركبة من أجزاء النوعين . وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث جبريل ،
وقد قال له: ما الإسلام يا محمد؟ قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً
رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه
سبيلاً ) ؛ فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أجزاء الإسلام.
فالآيتان أشارتا بذكر بعض أجزاء الإسلام ، وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إلى
اعتبار الإسلام بجميع أفراده، إلا أنهما خصتا أعظم أجزائهما البدنية والمالية ،
ويعلم الصوم والحج بالسنة التي وردت بياناً للقرآن، فإن بيانه بتفصيل مجمله، وتقييد
مطلقه، وتفسير مبهمه ، وغير ذلك .
وأشارتا بالإيمان وزيادته إلى اعتبار الإيمان بأجزائه، فأفادتا أنه لا يكون العبد
مؤمناً إلا باستكماله لخصال الإسلام والإيمان .
وأشارت آيةُ البقرة إلى أن المتقين هم الجامعون بين الإسلام بقوله: ( الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ ) [البقرة:3] ، والإيمان بقوله: ( وَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ ) الآية.
وإذا عرفت هذا ، فقد بين القرآن أولياء الله بياناً شافياً : أنهم الذين جمعوا
بين الإيمان والتقوى، ثم بين تعالى الإيمان وأجزاءه، والتقوى وأجزاءها.
ثم بعد تقرير هذا ؛ فلا ريب أن رتبة الإيمان تتفاوت إلى زيادة ونقصان ، حتى ينتهي
الإيمان إلى مقدار مثقال الخردلة، كما وردت به الأحاديث النبوية الثابتة الصحيحة ،
وقد قرر في محالِّه، كما أن رتبة التقوى تتفاوت " انتهى ، باختصار يسير من "الإنصاف
في حقيقة الأولياء" للصنعاني (6-7) .
وفي النهاية ننبه على فضل قيام الليل وأنه من أفضل القربات وأجل الأعمال
الصالحات كما سبق بيانه في الفتوى رقم : ( 50070 ).
تعليق