الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

استعمال المرأة التورية مع زوجها ، ونظرها للرجال في الأسواق .

247413

تاريخ النشر : 25-02-2017

المشاهدات : 59451

السؤال


ما الدليل على جواز التورية ؟ وكيف نجمع بينها وبين أن الدين الاسلامي يأمرنا ويحثنا على الوضوح ، وعلى الشفافية مع الآخرين ، وألا نكون مخادعين مناورين لهم بحجة التورية ، حتى لو لم تترتب عليها مفسدة ؟ ولكن ألا يعتبر ذلك مناورة وخداع ؟ وأريد أن أعرف كيف أميز الآن أن من يحدثني ، ويحلف لي بأنه صادق معي ، أو إنه يستخدم التورية ؟ كيف أثق في كلام الآخرين ؟ فحتى زوجتي أصبحت أشك في كلامها لي ، وفي كل ما حلفت عليه سابقا لي ، بأنه كله خداع ومناورة مستخدمة التورية ، فزوجتي كلما حدثتني في أمر بادرت إلى الحلف لأصدقها دون أن أطلب منها ذلك ، وكنت أصدقها ، على الرغم أنه في بعض الأحيان كان الأمر واضحا لي بأنها غير صادقة ، ولكن كنت أسلم بصدقها ؛ لأني أعلم أنها تخاف من الله ، ولن تحلف كاذبة ، إلى أن حدثتني يوما عن التورية ، وأن الانسان يستطيع أن يتحدث ، وأن يحلف دون أن يعتبر كاذبا ، وذلك باستخدام التورية ، ألا يحق للمتلقي وللمستمع أن يعرف الحقيقة من المتكلم ، ألا يحق للزوج أن تحدثه زوجته بصدق ، ووضوح ، وشفافية ؟ فمثلا : زوجتي كانت تكثر من النظر إلى الرجال إذا نزلنا إلى الأسواق ، والأماكن العامة ، وأنا أثق فيها ، وأثق بأن هذا النظر لا يتجاوز الفضول والنظر ، ولكنه مفسدة حتى لو كان نظرا فقط ، فناصحتها بلطف كثيرا ، وأخبرتها بثقتي فيها ، وشرحت لها مفسده هذا الأمر ، وكنت أنزل معها إلى الأسواق ، وفي كل مكان عام ؛ لأنه عند نزولي معها كانت تخجل مني أن تنظر إلى الرجال ، دون أن أبين لها أن سبب نزولي معها هو نظرها للرجال ، وبعد مناصحتي لها كانت كلما نظرت لرجل بادرت هي إلى الحلف بأنها لم تنظر إليه ، رغم وضوح ذلك ، حتى لمن تنظر إليهم ، ولكني بعد حلفها لي في كل مرة تنظر إلى الرجال أصدقها ، وأسلم بما تقول ، وأصبحت أسمح لها أن تنزل لوحدها إلى الأسواق ، والأماكن العامة ، واكتشفت أن ذلك كان تورية .

الجواب

الحمد لله.



أولا:
"التورية : وهي أن تطلق لفظا ظاهرا ( قريبا ) في معنى ، تريد به معنى آخر ( بعيدا ) يتناوله ذلك اللفظ ، لكنه خلاف ظاهره " انتهى من الموسوعة الفقهية (12/247).
قال البخاري في صحيحه: "بَاب الْمَعَارِيضُ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ . وَقَالَ إِسْحَاقُ : سَمِعْتُ أَنَسًا : مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ : كَيْفَ الْغُلَامُ ؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ : هَدَأَ نَفَسُهُ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ ، وَظَنَّ أَنَّهَا صَادِقَةٌ " انتهى.
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم صنيع أم سليم ولم ينكر عليها.
فقد روى البخاري (5470) ، ومسلم (2144) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ : مَا فَعَلَ ابْنِي
قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ : هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ : وَارُوا الصَّبِيَّ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: ( أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ ؟ ) ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا فَوَلَدَتْ غُلَامًا) " .
قال النووي في " شرح مسلم" (14/ 124): " وفى هذا الحديث مناقب لأم سليم رضى الله عنها ، من عظيم صبرها وحسن رضاها بقضاء الله تعالى ، وجزالة عقلها في إخفائها موته على أبيه فى أول الليل ليبيت مستريحا بلا حزن ، ثم عشته وتعشت ، ثم تصنعت له ، وعرضت له بإصابته فأصابها، وفيه استعمال المعاريض عند الحاجة لقولها : (هو أسكن مما كان) ، فإنه كلام صحيح ، مع أن المفهوم منه أنه قد هان مرضه وسهل وهو فى الحياة .
وشرط المعاريض المباحة : أن لا يضيع بها حق أحد . والله أعلم" انتهى.
وقال عمر: " أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب ؟ ".
وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" رواهما البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح . "صحيح الأدب المفرد" (1/ 327، 337).

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى استعمال التورية لرفع الحرج :
روى أبو داود (940) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِذَا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بِأَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْصَرِفْ)
والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
قال الطيبي : "أمر بالأخذ ليخيل أنه مرعوف ( والرعاف هو النزيف من الأنف ) ، وليس هذا من الكذب ، بل من المعاريض بالفعل ، ورُخِّص له في ذلك لئلا يسوِّل له الشيطان عدم المضي استحياء من الناس " انتهى من " مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 3 / 18 ).

والحاصل : أن التورية مشروعة عند الحاجة ، وقد استعملها الأئمة.
قال ابن قدامة رحمه الله: " روي أن مَهَنّا كان عنده [أي عند الإمام أحمد]، هو والمروذي وجماعة ، فجاء رجل يطلب المروذي ، ولم يرد المروذي أن يكلمه ، فوضع مهنا أصبعه في كفه ، وقال : ليس المروذي هاهنا ، وما يصنع المروذي هاهنا ؟ يريد : ليس هو في كفه ، ولم ينكر ذلك أبو عبد الله " انتهى من "المغني" (9/ 420).

وقد ذكرنا أمثلة لذلك من فعل الأئمة في جواب السؤال رقم : (27261) وذكرنا فيه أنه ينبغي للمسلم ألا يستعمل التورية إلا في حالات الحرج البالغ ، وذلك لأمور ، منها :
1-أن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب .
2-فقدان الإخوان الثقة بكلام بعضهم بعضاً ، لأن الواحد منهم سيشك في كلام أخيه هل هو على ظاهره أم لا ؟
3-أن المستمع إذا اطلع على حقيقة الأمر المخالف لظاهر كلام الموري ، ولم يدرك تورية المتكلم ، كان الموري عنده كذاباً ، وهذا مخالف لاستبراء العرض المأمور به شرعاً .
4-أنه سبيل لدخول العجب في نفس صاحب التورية ، لإحساسه بقدرته على استغفال الآخرين .

وقد أخطأت زوجتك باستعمال التورية على نحو ما ذكرت ، مما أدى إلى فقدان ثقتك بكلامها.
ولاشك أن الحياة الزوجية لا تستقيم مع الإكثار من التورية ؛ لأن مبنى هذه الحياة على الثقة المتبادلة بين الزوجين واطمئنان كل منهما للآخر.

وقد ذهب بعض العلماء إلى تحريم التعريض لغير حاجة أو مصلحة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . انظر "الاختيارات" ص 563 .
فنصيحتنا أن تبين لزوجتك هذا، وأنك لا تطمئن إليها إن استعملت التورية ، ولا ترضى بذلك.

ثانيا:
المرأة مأمورة بغض البصر عن الرجال، كما قال تعالى: ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) النور/31، ولكن نظرها للرجال ليس كنظر الرجل للنساء عند الجمهور؛ لأن الأصل في نظرها الحل ، والأصل في نظره الحرمة، لكن لا يعني هذا أن تنظر للغادي والرائح، بل ينبغي أن يقتصر نظرها على الحاجة عند أمن الفتنة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( نظر المرأة للرجل لا يخلو من حالين ، سواء كان في التلفزيون أو غيره :
نظر بشهوة وتمتع ، فهذا محرم لما فيه من المفسدة والفتنة.
نظرة مجردة لا شهوة فيها ولا تمتع ، فهذه لا شيء فيها ، على الصحيح من أقوال أهل العلم ، وهي جائزة ، لما ثبت في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسترها عنهم، وأقرها على ذلك. ولأن النساء يمشين في الأسواق وينظرن إلى الرجال وإن كن متحجبات. فالمرأة تنظر الرجل وإن كان هو لا ينظرها ، ولكن بشرط ألا تكون هناك شهوة وفتنة. فإن كانت شهوة أو فتنة فالنظرة محرمة في التلفزيون وغيره) نقلا عن " فتاوى علماء البلد الحرام " ص 482

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تحريم نظرها للرجال، فلا أقل من الاحتياط، وغض البصر إلا للحاجة.
ففي " الموسوعة الفقهية " (40/ 357): " القول الثالث : أن حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي كحكم نظره إليها ، فلا يحل أن ترى منه إلا ما يحل له أن يرى منها ، وهذا هو قول للشافعية في مقابل الأصح ، ورواية عن أحمد ، قدمها في الهداية والمستوعب والخلاصة والرعايتين والحاوي الصغير ، وقطع بها ابن البنا واختاره ابن عقيل ، لكن النووي جعله هو الأصح من مذهب الشافعية ، تبعا لجماعة من الأصحاب وما قطع به صاحب المهذب .
وقد تقدم أن القول الصحيح الذي عليه الفتوى عند الشافعية : أن الرجل لا يحل له أن ينظر من المرأة الأجنبية الشابة إلى أي شيء من بدنها ، وأن مقابله جواز نظره إلى الوجه والكفين مع الكراهة .
وبناء على القول الصحيح في حكم نظر الرجل إلى المرأة ، يكون مقتضى هذا القول في حكم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي : هو التحريم مطلقا ، لكن قال الجلال البلقيني : هذا لم يقل به أحد من الأصحاب ، واتفقت الأوجه على جواز نظرها إلى وجه الرجل وكفيه عند الأمن من الفتنة " انتهى.

وينبغي إحسان الظن بالمسلم والمسلمة ، لا سيما بين الزوجين ، كما ينبغي عدم التدقيق والتفتيش، في هذا فإنه مدعاة للشك والوسوسة وفساد ذات البين.

ثالثا:
الإكثار من الحلف مذموم ؛ لقوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) المائدة/89، ولا سيما إذا صاحب التورية ، فقد يقود ذلك إلى الكذب، والكذب في اليمين من كبائر الذنوب؛ لما روى البخاري (6675) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ).
والعبرة بنية الحالف إلا إن حلفه من له ولاية التحليف كالقاضي والمحكَّم.

قال في "مغني المحتاج" (4/ 475): " ( وتعتبر ) في الحلف ( نية القاضي المستحلف ) للخصم سواء أكان موافقا للقاضي في مذهبه أم لا لحديث : (اليمين على نية المستحلِف) رواه مسلم وحمل على الحاكم ، لأنه الذي له ولاية الاستحلاف . والمعنى فيه : أنه لو اعتبرت نية الحالف لبطلت فائدة الأيمان ، وضاعت الحقوق ، إذ كل أحد يحلف على ما يقصد...
تنبيه كان الأولى للمصنف أن يقول : من له ولاية التحليف بدل القاضي ، ليشمل الإمام الأعظم والمحكم ، أو غيرهما ممن يصح أداء الشهادة عنده...
أما إذا حلّفه الغريم أو غيره ممن ليس له ولاية التحليف ، أو حلفه من له ذلك بغير طلبه ، فالعبرة بنية الحالف. وكذا لو حلف هو بنفسه ابتداء ، كما قاله في زيادة الروضة " انتهى.

نسأل الله أن يصلح حالكما وأحوال المسلمين.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الاسلام سؤال وجواب