الحمد لله.
الواجب على المؤمن الرضا والتسليم لأمر الله تعالى، وامتثاله، وألا يكون في نفسه حرج ولا ضيق من تشريعه، كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) النساء/65.
وقد أخبر الله تعالى أن كراهة ما أنزل الله: من الكفر. قال تعالى:( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فأحبط أعمالهم) محمد/9، وقال: ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) الشورى/13، ( لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) الزخرف/78.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام: " الناقض الخامس:
من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو عمل به : كفر".
والمراد: كراهة التشريع، لا كراهة الطبع.
فمن كره تشريع الله للجهاد مثلا، أو أمره بالصلاة، أو بالغسل، أو بالحجاب، فهذا كافر.
وأما نفور الطبع من بعض
الأحكام، لثقلها ، أو مشقتها على النفس، ككراهة المشاركة في الجهاد، أو الاغتسال مع
شدة البرد، أو كراهة المرأة لوجود ضرة لها، أو ضيقها من ستر وجهها، مع التسليم لحكم
الله وشرعه ، واعتقاد أنه الخير والعدل والفلاح : فهذا لا ينافي الرضا بحكم الله
واعتقاد أنه حق وعدل.
وقد قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/216
وقد بين أهل العلم الفرق بين
كراهة أمر الله وشرعه ، وكراهة الفعل ، وثقله على النفس ، أو نفور الطبع منه، ونحن
ننقل هنا بعض كلامهم.
قال ابن الجوزي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) الأنفال/5 : "فيها قولان: أحدهما: كارهون خروجك.
والثاني: كارهون صرف الغنيمة عنهم، وهذه كراهة الطبع، لمشقة السفر والقتال، وليست
كراهة لأمر الله تعالى" انتهى من زاد المسير (3/323).
وقال ابن القيم رحمه الله : " وليس من شرط الرضى ألا يحس بالألم والمكاره ؛ بل ألا
يعترض على الحكم ، ولا يتسخطه .
ولهذا أشكل على بعض الناس الرضى بالمكروه ، وطعنوا فيه ، وقالوا : هذا ممتنع على
الطبيعة وإنما هو الصبر ؛ وإلا فكيف يجتمع الرضى والكراهية ، وهما ضدان .
والصواب : أنه لا تناقض بينهما ، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضى ،
كرضى المريض بشرب الدواء الكريه ، ورضى الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من
ألم الجوع والظمإ، ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح ، وغيرها "
انتهى من "مدارج السالكين" (2/ 175).
وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله: " والكره بضم الكاف: الكراهية ، ونفرة الطبع من
الشيء ... ومعلوم أن كراهية الطبعِ الفعلَ : لا تنافي تلقي التكليف به برضا ؛ لأن
أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة " انتهى من التحرير والتنوير (2/320).
وقال رحمه الله في بيان المراد بالحرج في قول الله تعالى:) ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) النساء/65: " وليس المراد : الحرج الذي يجده
المحكوم عليه ، من كراهية ما يُلزم به ، إذا لم يخامره شك في عدل الرسول صلى الله
عليه وسلم ، وفي إصابته وجه الحق" انتهى من التحرير والتنوير (5/111).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) البقرة/216 : " وجملة ( وهو كره لكم ) في محل نصب
على الحال؛ والضمير ( هو ) يعود على القتال؛ وليس يعود على الكتابة؛ فإن المسلمين
لا يكرهون ما فرضه الله عليهم؛ وإنما يكرهون القتال بمقتضى الطبيعة البشرية .
وفرق بين أن يقال: إننا نكره ما فرض الله من القتال؛ وبين أن يقال: إننا نكره
القتال؛ فكراهة القتال أمر طبيعي؛ فإن الإنسان يكره أن يقاتل أحداً من الناس ،
فيقتله؛ فيصبح مقتولاً؛ لكن إذا كان هذا القتال مفروضاً علينا ، صار محبوباً إلينا
من وجهٍ، ومكروهاً لنا من وجهٍ آخر؛ فباعتبار أن الله فرضه علينا يكون محبوباً
إلينا؛ ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصرون
أن يقاتلوا؛ وباعتبار أن النفس تنفر منه ، يكون مكروهاً إلينا ".
ثم قال في فوائد الآية : " ومنها: أنه لا حرج على الإنسان إذا كره ما كُتب عليه؛ لا
كراهته من حيث أمَر الشارع به؛ ولكن كراهته من حيث الطبيعة؛ أما من حيث أمر الشارع
به ، فالواجب الرضا، وانشراح الصدر به " انتهى من "تفسير الفاتحة والبقرة" (3/50) .
وننبه إلى أنه كلما زاد
الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، زادت محبة العبد لأوامر الله تعالى، حتى تكون قرة
عينه، ورضا نفسه، ولهذا جاد المحبون بأنفسهم ابتغاء رضوان الله تعالى، وهانت عليهم
الآلام والابتلاءات في ذات الله تعالى .
والله أعلم.
تعليق