الحمد لله.
الولاية على المريض المغمى عليه تدخل في الولاية في النفس ، وأحق الناس بها : الابن ثم الأب ثم الجد ثم الأخ، ثم الأقرب عصبة.
وفي "الموسوعة الفقهية" (45/ 168):" الولاية على النفس عند الفقهاء : سلطة على شؤون القاصر ونحوه ، المتعلقة بشخصه ونفسه ، كالتزويج والتعليم والتطبيب والتشغيل ونحو ذلك ، تقتضي تنفيذ القول عليه ، شاء أم أبى .
وعلى ذلك قرر الفقهاء أن أسباب الولاية على النفس ثلاثة : الصغر ، والجنون ، ويلحق به العَتَه، والأنوثة " انتهى.
وقال الشيخ الدكتور محمد بن
محمد المختار الشنقيطي حفظه الله:
" اعتبار إذن الأولياء:
اعتبرت الشريعة الإسلامية الولاية على الغير في حال عجز ذلك الغير عن النظر في
مصالحه، كما يظهر ذلك جليًا في اعتبار الولاية على الصبي والمجنون والسفيه.
وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده، ومن يسر شريعته التي تضمنت مصالح العباد في
دينهم، ودنياهم، وآخرتهم.
واعتبارا لهذا الأصل : نص بعض الفقهاء -رحمهم الله- على اعتبار الولاية على المريض
في حال عدم أهليته للإذن بالجراحة، قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله-: "وإن ختن
صبيًا بغير إذن وليه، أو قطع سَلْعة من إنسان بغير إذنه، أو من صبي بغير إذن وليه ،
فَسًرَتْ جنايتُه : ضمن، لأنه قطعٌ غير مأذون فيه" اهـ.
فاعتبر ختان الصبي ، وقطع السلعة منه ، بغير إذن وليه جناية . ومفهوم ذلك : أنه إذا
وقع بإذن الولي كان جائزًا .
وهذا يدل على اعتبار إذن ولي المريض بالجراحة ، إذا كان المريض غير أهل ، بأن كان
صبيًا.
وإذا كان الصِّبَا الذي يوجد فيه نوع تمييز ، موجبًا للولاية ، فمن باب أولى أن
يوجبها الجنون الذي لا تمييز فيه" انتهى.
وإذا كان هذا في الصبي والمجنون ، فإنه يلحق بهما البالغ العاقل إذا احتاج إلى الجراحة ، ولم يكن أهلا للإذن ، لكونه مغمى عليه ، أو في حال الغيبوبة.
ثم قال حفظه الله في ترتيب
الأولياء: " الحق في ولاية الإذن بالجراحة يعتبر بحسب القرابة وضعفها ، لوجود من هو
أقرب .
ويعتبر الأبناء أحق القرابة ، كما هو معلوم من أصول الشرع، فإن التعصيب بالبنوة
مقدم على التعصيب بالأبوة.
ويلي الأبناء : الوالدان إلا أن الأب أقوى ولاية من الأم ، كما أشار إلى ذلك بعض
فقهاء الحنفية -رحمهم الله- حيث اعتبروا وصي الأب قائمًا مقام الأب في الإذن بختان
الصبي، ولم يعتبروا لوصي الأم حقًا في الإذن به.
ويقوم مقام الأب: الجدُّ وإن علا، ثم الإخوة الأشقاء ، ثم الإخوة لأب، ثم بنو
الإخوة الأشقاء، ثم بنو الإخوة لأب ، ثم الأعمام الأشقاء ، ثم الأعمام لأب، ثم بنو
الأعمام الأشقاء، ثم بنو الأعمام لأب".
ونبه على أنه يستثنى إذن
المريض ووليه عند الضرورة ، فقال:
"هناك حالتان يجوز فيهما للطبيب الجراح أن يقوم بفعل الجراحة الطبية ، دون إذن مسبق
من المريض أو وليه ، وهما:
الحالة الأولى:
أن يكون المريض مهددًا بالموت ، أو تلف عضو ، أو أعضاء من جسده، إذا لم يتم إسعافه
بالجراحة الطبية اللازمة فورًا، ولا تسمح حالته الصحية بأخذ الموافقة.
الحالة الثانية:
أن يكون المرض الجراحي من الأمراض الوبائية التي يخشى من انتشارها في المجتمع .
وبيان هاتين الحالتين يتضح
فيما يلي:
(1) أن يكون المريض مهددًا بالموت أو تلف عضو أو أعضاء من جسده:
وهذه الحالة كثيرًا ما تحدث في بعض الأمراض الجراحية التي تصل إلى درجة الخطر ، مثل:
التهاب الزائدة الدودية إذا بلغ إلى درجة الخوف من انفجار الزائد ة، فإن المريض
يكون مهددًا بالموت إذا لم يتم إسعافه بالجراحة اللازمة فورًا.
وأما الخوف على العضو أو الأعضاء من التلف ، فهو كثيرًا ما يحدث في جراحات الحوادث
التي تصيب أطراف الإنسان ، وهكذا جراحات الحروب التي يخشى فيها على العضو ، أو
الأعضاء ، من التلف .
وفي جميع هذه الصور يكون المريض في حالة لا يستطيع معها إبداء الموافقة ، ويتعذر
الاتصال على قريبه ، أو معرفته ، فحينئذ يقع الأطباء بين خيارين:
أحدهما:
الانتظار إلى إفاقة المريض ، أو حضور وليه، وهذا الخيار يتعذر قبوله طبيًا لغلبة
الظن بهلاك المريض وموته ، أو تلف عضوه أو أعضائه.
وأما الخيار الثاني:
فهو الإقدام على فعل الجراحة الطبية مباشرة دون إذن المريض ووليه.
وهذا الخيار هو المتفق مع أصول الشرع التي دعت إلى إحياء الأنفس بتعاطي الأسباب
الموجبة لإنقاذها من الهلاك والتلف ، واعتبرته من الضروريات .
وهذا النوع من الجراحة يعتبر ضروريًا ، كما تقدم بيانه عند الكلام على حكم الجراحة
العلاجية، وأنه يجب على الطبيب الجراح فعله .
فإذا وجد الإذن المسبق : فلا إشكال .
وأما إذا لم يوجد -كما هو الحال هنا- فإنه يُعْتذر بغلبة الظن بموافقة المريض لو
علم بحاله، لأن الغالب في الإنسان أن يكون حريصًا على نجاة نفسه وسلامة أعضائه.
ثم إننا نقول إن الإذن واجب في حال الإمكان، وأما في حال التعذر ، والخوف على النفس
والأطراف : فإنه يسقط الحكم بوجوبه، ويبقى وجوب إنقاذ النفس والأطراف على الأطباء
كما هو؛ فيلزمهم القيام بواجبهم.
وقد جرت العادة في بعض المستشفيات أن توجد لجنة مكونة من عدد من الأطباء المختصين
يتولون النظر في مثل هذه الحالات، والحكم فيها بوجوب التدخل الفوري ، أو الانتظار ،
حسبما تقتضيه مصلحة المريض ، ودرجة خطورة مرضه.
ووجود هذه اللجنة أمر مهم جدًا ، لقطع التهمة عن الأطباء ، بحرصهم على فعل الجراحة
طلبًا لمصلحتهم الذاتية.
فشهادة هؤلاء الأطباء من أهل الخبرة : تعتبر مستندًا شرعيًا ضد دعوى التهمة ، إذا
وجهت للطبيب الجراح في حال قيامه بفعل هذا النوع من الجراحة المستعجلة الضرورية.
(2) أن يكون المرض الجراحي
من الأمراض الوبائية التي يخشى من انتشارها في المجتمع:
وهذه الحالة تقع في بعض الأمراض الجراحية المعدية، وقد صح عن المصطفى - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، فأثبت انتقال العدوى
وتأثيرها بقدرة الله عز وجل ، وهو أمر تشهد به العادة والتجربة، وقد ثبت طبيًا
انتقال المرض من المصاب به إلى غيره عن طريق المخالطة، سواء في المأكل أو المشرب،
أو الملبس ونحو ذلك.
لهذا فإن المريض إذا كان مصابًا بمرض جراحي معدٍ ، فإنه يهدد المجتمع، ومن ثم يصبح
الحق في إزالة هذ المرض المعدي راجعًا إلى مصلحة المجتمع ، فإذا امتنع المريض من
الموافقة على إجراء هذا النوع من الجراحة ، كان امتناعه واقعًا في غير موقعه ،
لكونه متضمنًا الضرر بالغير؛ ومن قواعد الفقه الإسلامي "أن الضرر يزال" انتهى من
"أحكام الجراحة الطبية "، ص246- 248، 262-265 .
والله أعلم.
تعليق