الحمد لله.
التذلل لله تعالى يعني الخضوع له، والانكسار بين يديه، والاعتراف بقهره، والحاجة إلى معونته. والعبد فقير ذليل لله من كل وجه ، وهو سبحانه الغني العزيز من كل وجه.
قال ابن القيم رحمه الله : " إن تمام العبودية هو : بتكميل مقام الذل والانقياد ، وأكمل الخلق عبودية : أكملهم ذلاًّ لله ، وانقياداً ، وطاعة ، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل ، فهو ذليل لعزِّه ، وذليل لقهره ، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه ، وذليل لإحسانه إليه ، وإنعامه عليه ؛ فإن مَن أحسن إليك : فقد استعبدك ، وصار قلبُك معبَّداً له ، وذليلاً ، تعبَّدَ له ؛ لحاجته إليه على مدى الأنفاس ، في جلب كل ما ينفعه ، ودفع كل ما يضره " ا.
نتهى من " مفتاح دار السعادة " ( 1 / 289 ).
ومن أعظم صور الذل: السجود بين يدي الله تعالى ، مع التضرع وإظهار الفاقة والحاجة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "لفظ " السجود " ، فإنه إنما يستعمل في غاية الذل والخضوع ، وهذه حال الساجد" انتهى من "جامع الرسائل ، رسالة في قنوت الأشياء " ( 1 / 34).
والعبد ذليل لله تعالى اختيارا، وقهرا، فإذا لم يتذلل اختيارا، فإنه ذليل قهرا وإجبارا، لحاجته وفقره وضعفه ومرضه، فلا ينفك عبد ولو كان كافرا عن الخضوع لله والذل له والحاجة إليه، حتى لو أنكره بلسانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "والمقصود هنا : الكلام أولاً في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه ، واحتياجه إليه ، أي : في أن يشهد ذلك ، ويعرفه ، ويتصف معه بموجب ذلك ، من الذل ، والخضوع ، والخشوع ، وإلا فالخلق كلهم محتاجون ، لكن يظن أحدهم نوع استغناء ، فيطغى ، كما قال تعالى : ( كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)" .
انتهى من "مجموع الفتاوى " ( 1 / 50 ).
ونحسبك من أهل الإيمان والصلاة والدعاء، وهذا لا يتم إلا بالذل والخضوع؛ إذ حقيقة العبودية: كمال الحب، مع كمال الذل والخضوع.
قال ابن القيم رحمه الله : " والعبادة تجمع أصلين : غاية الحب ، بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول : " طريق معبَّد " أي : مذلَّل، والتعبد : التذلل والخضوع ، فمن أحببتَه ولم تكن خاضعاً له: لم تكن عابداً له ، ومن خضعت له بلا محبة : لم تكن عابداً له ، حتى تكون محبّاً خاضعاً " انتهى من " مدارج السالكين " ( 1 / 74 ).
فكيف يوهمك الشيطان أنك لا تتذلل له، أو أنك تفكر هل تتذل أو لا تتذل ؟!
وهل تستقيم حياة للعبد إلا بذله وخضوعه لربه ؟
وهل السعادة إلا في هذا الذل؟!
وهل العز إلا في القرب منه؟!
قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) فاطر/10 أي فليتعزز بطاعة الله ، كما قال قتادة رحمه الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وقد دل القرآن على أن القوة والعزة لأهل الطاعة التائبين إلى الله ، في مواضع كثيرة ، كقوله في سورة هود: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) وقوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
وإذا كان الذي قد يهجر السيئات ، يغض بصره ويحفظ فرجه ، وغير ذلك مما نهى الله عنه ؛ يجعل الله له من النور والعلم والقوة والعزة ومحبة الله ورسوله ، فما ظنك بالذي لم يحم حول السيئات ، ولم يعرها طرفه قط ولم تحدثه نفسه بها ، بل هو يجاهد في سبيل الله أهلها ليتركوا السيئات؟ فهل هذا وذاك سواء؛ بل هذا له من النور والإيمان والعزة والقوة والمحبة والسلطان والنجاة في الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ذاك ، وحاله أعظم وأعلى ، ونوره أتم وأقوى .. " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/400) .
وقال أيضا :
" ولهذا يوجد في المتبع لهواه من الذل - ذل النفس وضعفها ومهانتها - ما جعله الله لمن عصاه فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه قال تعالى: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) وقال تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) . ولهذا كان في كلام الشيوخ: الناس يطلبون العز من أبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله. وكان الحسن البصري يقول: وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال فإن ذل المعصية في رقابهم يأبى الله إلا أن يذل من عصاه. ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ومن عصاه ففيه قسط من فعل من عاداه بمعاصيه. وفي دعاء القنوت: (إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت)" انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/258) .
واعلم أن من تكبر على الله أهانه، ومن تواضع له رفعه، ومن أبى أن يتذلل له اختيارا، ابتلاه الله بالذل والخضوع لغيره، فتراه عبدا ذليلا لمال أو امرأة أو عرض زائل، وهذه قمة الذل والهوان.
قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) غافر/60 أي صاغرين.
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) الحج/18 .
تعليق