الحمد لله.
لا تعارض بين الحديثين، بل الحديث الأول عام، والحديث الثاني خاص، ولا تعارض بين عام وخاص.
وبيان ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) -رواه الترمذي (2396) وصححه الألباني في صحيح الترمذي- يفيد أن تعجيل العقوبة للعبد في الدنيا خير له، لأن العقوبة والبلاء يكفر الذنب، حتى لا يوافي ربه بذنبه .
ويستثنى من هذا بعض الذنوب
التي ثبتت فيها العقوبة في الدنيا والآخرة، فإن عقوبتها في الدنيا لا تكفّرها، بل
تبقى عقوبة الآخرة، إلا أن يتوب أو يتجاوز الله عنه برحمته.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فإذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في
الدنيا، إما بماله أو بأهله، أو بنفسه، أو بأحد ممن يتصل به .
المهم أن تعجل له العقوبة، لأن العقوبات تكفر السيئات ، فإذا تعجلت العقوبة وكفر
الله بها عن العبد، فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب ، قد طهرته المصائب والبلايا ،
حتى إنه ليشدد على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين عليه، حتى يخرج من الدنيا
نقيا من الذنوب، وهذه نعمة لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
لكن إذا أراد الله بعبده الشر ، أمهل له واستدرجه وأدر عليه النعم ، ودفع عنه
النقم، حتى يبطر ويفرح فرحاً مذموما بما أنعم الله به عليه .
وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيعاقب بها في الآخرة نسأل الله العافية.
فإذا رأيت شخصاً يبارز الله بالعصيان ، وقد وقاه الله البلاء وأدر عليه النعم،
فاعلم أن الله إنما أراد به شراً لأن الله أخر عنه العقوبة حتى يوافي بها يوم
القيامة " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (1/258).
ومن الذنوب التي تجتمع فيها
العقوبتان، ولا تكون عقوبة الدنيا مكفرة لها: البغي، وقطيعة الرحم، والخيانة،
والكذب.
روى أبو داود (4902) ،
والترمذي (2511) ، وابن ماجه (4211) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ
يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا
يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) والحديث
صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
ورواه الطبراني بلفظ: (ما من
ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من
قطيعة الرحم والخيانة والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابا، لصلة الرحم ، حتى إن أهل
البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا ) وصححه الألباني في
"صحيح الجامع" برقم (10642).
قال المناوي رحمه الله:
"وفيه: أن البلاء بسبب القطيعة في الدنيا، لا يدفع بلاء الآخرة" انتهى من "التيسير
شرح الجامع الصغير" (2/698).
وقال الشيخ عبد المحسن
العباد حفظه الله: " يعني: أنه تحصل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين
العقوبة الدنيوية والأخروية، حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في
الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا،
والضرر الذي يحصل في الآخرة .
وهذا يدل على عظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم
ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على
خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم" انتهى من "شرح سنن أبي داود" (28/ 167) ترقيم
الشاملة.
فالحاصل : أن كون العقوبة الدنيوية خيرا للعبد لأنها تكفر ذنبه، ليست عامة في كل الذنوب، بل من الذنوب ما تجتمع فيه العقوبتان، ولا تكون الأولى مسقطة للثانية إلا أن يشاء الله .
على أننا ننبه هنا إلى أن
العبد ليس له أن يتمنى من الله أن يعاقبه بذنبه في الدنيا ، ولا أن يدعو الله بذلك
، بل يطمع في عفو الله وفضله ، وأن يرزقه العفو والعافية والمعافاة ، في الدنيا
والآخرة؛ وفضل الله واسع ، ولا قبل لأحد بعذاب الله ، فلا يستفتحن العبد على نفسه ،
ولا يتعجل البلاء ، ولا يتمناه ؛ فإنه لا يدري ما يكون حاله فيه .
روى مسلم في صحيحه (2688) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو
بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللهُمَّ مَا
كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللهِ لَا تُطِيقُهُ -
أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلَا قُلْتَ: اللهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ،
فَشَفَاهُ.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي
رحمه الله :
" فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ قَدْ رَوَيْتُمْ عَنْهُ .. "
فذكر الحديث الأول :
" عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ
فِي الدُّنْيَا , وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ شَرًّا أَمْسَكَ عَنْهُ
بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
قَالَ هَذَا الْقَائِلُ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ,
فَلِمَ لَحِقَ اللَّوْمُ مَنْ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي
الدُّنْيَا لِيَسْلَمَ مِنْهَا فِي الْآخِرَةِ؟ " .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله :
" فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ:
أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ مِنَ الْحَدِيثِ الثَّانِي كَمَا ذَكَرَ , وَالَّذِي فِي
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ , غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ لِأُمَّتِهِ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ ,
وَرَحْمَةً لَهُمْ , وَرَأْفَةً بِهِمْ , أَنْ يَدْعُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
بِالْمُعَافَاةِ فِي الدُّنْيَا مِمَّا مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِيهِ , وَأَنْ
يُؤْتِيَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ , وَهَذِهِ
الْحَالُ فَهِيَ أَعْلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا , فَبَانَ بِحَمْدِ اللهِ أَنْ لَا
تَضَادَّ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ , وَلَا اخْتِلَافَ , وَاللهَ عَزَّ
وَجَلَّ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " انتهى ، من "تأويل مشكل الآثار" (5/291-292) .
والله أعلم.
تعليق