الحمد لله.
أولا :
عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا " رواه البخاري (5631) و مسلم (2028) .
وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ :" كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا" رواه مسلم (2028) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" ومعنى تنفسه في الشراب: إبانته القدح عن فيه ، وتنفسه خارجه ، ثم يعود إلى الشراب ، كما جاء مصرحا به في الحديث الآخر: ( إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْقَدَحِ ، وَلَكِنْ لِيُبِنِ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ ) " انتهى، من " زاد المعاد " (4 / 210) .
فعند التمعّن لهذا الحديث ؛ يظهر أن هذا الحكم ليس خاصا بشرب الماء ، بل هو عام في كل شراب يحتاج الشارب إلى أن يتنفس خلاله ؛ وبيان ذلك من وجهين :
الوجه الأول : أن الحديث لم ينص على أن هذا في شرب الماء ؛ بل جاء في رواية ( يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ) ، والإناء قد يكون فيه ماء وقد يكون فيه غيره ؛ فمشروبات النبي صلى الله عليه وسلم متنوعة ولم تكن الماء وحده.
وفي الرواية الأخرى جاء بلفظ " الشَّرَابِ " ، والشراب : اسم جنس محلى بالألف واللام غير العهدية ، وهذه صيغة من صيغ العموم ، فالشراب هنا يعم كل ما كان يشربه النبي صلى الله عليه وسلم من ماء ولبن وما كان ينبذ له وغير ذلك .
الوجه الثاني : أن الحكم هذا جاء معللا : كما روى الإمام مسلم (2028) عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ " .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقوله ( أَرْوَى) هو من الرِّي بكسر الراء غير مهموز؛ أي أكثر ريا. ويجوز أن يقرأ مهموزا للمشاكلة.
و ( أَمْرَأُ ) بالهمز من المراءة ، يقال مَرأ الطعام، بفتح الراء، يمرأ، بفتحها ويجوز كسرها؛ صار مريا.
و ( أَبْرَأُ ) بالهمز من البَراءة، أو من البُرْء؛ أي يُبرىء من الأذى والعطش .
ويؤخذ من ذلك أنه أقمع للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثرا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة " انتهى من " فتح الباري " (10 / 93 - 94) .
وهذه الحكمة ليست مطلوبة في شرب الماء فقط .
كما أن الشرب على ثلاث دفعات يحقق حكمة أخرى أشارت إليها أحاديث عدة ؛ وهي عدم التنفس والنفخ داخل الشراب :
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ" رواه البخاري (5630)، و مسلم (267) واللفظ له .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشُّرْبِ .
فَقَالَ رَجُلٌ: القَذَاةُ أَرَاهَا فِي الإِنَاءِ؟
قَالَ: أَهْرِقْهَا.
قَالَ: فَإِنِّي لَا أَرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ ؟
قَالَ: فَأَبِنِ القَدَحَ إِذَنْ عَنْ فِيكَ " رواه الترمذي (1887) وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وحسنه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1 / 739) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ ، فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ ، فَلْيُنَحِّ الْإِنَاءَ ثُمَّ لِيَعُدْ ، إِنْ كَانَ يُرِيدُ رواه ابن ماجه (3427) ، وصححه الألباني في " صحيح سنن ابن ماجه " .
قال الحافظ ابن حجر:
" وقال عمر بن عبد العزيز : إنما نهى عن التنفس داخل الإناء ، فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد.
قلت: وهو تفصيل حسن " انتهى . " فتح الباري " (10 / 93) .
وعدم التنفس داخل الإناء والشراب، وعدم تقذيره بذلك: هو أدب مطلوب في كل شراب ولا يتصور تخصيصه بالماء فقط .
ثانيا :
حاصل ذلك:
أن السنة والأفضل هو الشرب للماء وغيره على ثلاث دفعات .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" الأفضل أن يتنفس في الشرب ثلاثا ، ويكون نفسه في غير الإناء ؛ فإن التنفس في الإناء منهي عنه .
وإن لم يتنفس وشرب بنفس واحد: جاز ... وما علمت أحدا من الأئمة أوجب التنفس ، وحرّم الشرب بنفس واحد ، وفِعْلُه صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب " انتهى من "مجموع الفتاوى" (32 / 208 - 209) .
والخلاصة ؛ أنه يستحب شرب العصير وغيره من المشروبات، على ثلاث دفعات ، يتوقف الشارب بعد كل دفعة، ويتنفس خارج الإناء .
وإذا احتاج أن يشرب المشروب على أكثر من ثلاث دفعات فله ذلك .
وإن شربه في نفس واحد: كان له ذلك، وفاته فضيلة السنة في هذا الأمر، وحسب.
والله أعلم .
تعليق