الحمد لله.
أولا :
فإن القرآن كلام الله ، قاله سبحانه بحروفه ومعانيه ، كما قال سبحانه وتعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ) التوبة/6 .
وفي القرآن أقوال لأقوام ذكرها الله عز وجل عنهم ، منهم المؤمنون كالأنبياء والصديقين ، ومنهم الكافرون ، كفرعون وقارون ، ومنهم المنافقون ، ومنهم الملائكة ، ومنهم الجن ، ومنهم الطير كالهدهد ، ومنهم النمل ، وغير ذلك .
والقصد من ذكر هذه الأقوال هو حكاية المعنى وليس اللفظ بعينه ، وقد يكون المنقول هو عين اللفظ ، وقد يكون المنقول حكاية المعنى إذا امتنع أن يكون هذا عين اللفظ ، كأن يكون المتكلم بغير لغة العرب ، وقد نص على ذلك غير واحد من أهل العلم :
قال زين الدين الرازي الحنفي في "أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل" (ص144) :" فإن قيل: كيف قال الله تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى قول تعالى: (وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) ، ثم حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه وسورة الشعراء بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم، وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرة واحدة ، فكيف اختلفت عبارتهم فيها؟
قلنا: الجواب عنه أنهم إنما تكلموا بذاك بلغتهم ، لا باللغة العربية ، وحكى الله تعالى ذلك عنهم باللغة العربية مراراً ، لحكمة اقتضت التكرار والإعادة ، نبينها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى، فمرة حكاه مطابقاً للفظهم في الترجمة ، رعاية للفظ ، وبعد ذلك حكاه بالمعنى ، جرياً على عادة العرب في التفنن في الكلام ، والمخالفة بين أساليبه ؛ لئلا يُمَلَّ إذا تمحض تكراره ". انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "التسعينية" (2/464) :" إن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية ، والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية ، فلو لم يكن الكلام إلّا مجرد الحروف والأصوات ، لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى ، والذي ذكره الله أنه سمعه : قدر مشترك أصلًا ، بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها : كذب .
وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية ، فإنما تكلموا بلغتهم ، وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن ، وهي العربية ، وكلام الله صدق ، فلو كان قولهم: مجرد الحروف والأصوات ، والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه = لم تكن الحكاية عنهم مطلقًا ، بل كلامهم كان حروفًا ومعاني ، فحكى الله ذلك عنهم بلغة أخرى ، والحروف تابعة للمعاني ، والمعاني هي المقصود الأعظم ، كما يترجم كلام سائر المخلوقين ". انتهى
وقال ابن جماعة في "كشف المعاني" (1/173-174) :
" ما سبب اختلاف الألفاظ وزيادة المعاني ونقصها في بعض قصص آدم دون بعض، وكذلك في غير ذلك من القصص كقصة موسى مع فرعون، ونوح وهود وصالح مع قومهم وشبه ذلك ؟
جوابه: أما اختلاف الألفاظ فلأن المقصود المعاني، لأن الألفاظ الدالة عليها أولا، لم تكن باللسان العربي ، بل بألسنة المتخاطبين حالة وقوع ذلك المعنى ، فلما أُدِّيت تلك المعاني إلى هذه الأمة، أُدّيت بألفاظ عربية تدل على معانيها ، مع اختلاف الألفاظ واتحاد المعنى .
فلا فرق بين : ( أبى أن يكون مع الساجدين ) ، وبين : ( لم يكن مع الساجدين ) ، في دلالتها على معنى واحد ، وهو عدم السجود.
وكذلك : لا فرق في المعنى بين : مالك لا تسجد ، و: ( ما منعك أن تسجد ) ؛ لأن (لا) صلة، زائدة.
وأما زيادة المعاني ونقصها ، في بعض دون بعض : فلأن المعاني الواقعة في القصص فرقت في إيرادها ، فيذكر بعضها في مكان وبعض آخر في مكان آخر ، ولذلك عدة فوائد ذكرتها في كتاب (المُقْتَنَص في تكرار القصص) ". انتهى .
وقال الإسكافي في "درة التنزيل" (1/238) :" ما أخبر الله تعالى به ، من قصة موسى عليه السلام ، وبني اسرائيل ، وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم ، وما حكاه من قولهم ، وقوله عز وجل لهم = لم يُقْصد إلى حكاية الألفاظ بأعيانها، وإنما قُصد إلى اقتصاص معانيها .
وكيف لا يكون كذلك ؛ واللغة التي خوطبوا بها غير العربية ؟!
فإذًا ، حكاية اللفظ زائلة ، وتبقى حكاية المعنى .
ومن قصد حكاية المعنى : كان مُخيرا بأن يؤديه بأي لفظ أراد ، وكيف شاء ". انتهى
ثانيا :
ما ذكره السائل الكريم ، فيما نقله الله عن المنافقين ، قال سبحانه : ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) . المنافقون/7 ، 8 .
فهذه الأقوال التي نقلها الله عن المنافقين قالوها بألفاظها التي ذكرها الله عز وجل ، فقد ثبت في السنة ورود هذه الأقوال عنهم بألفاظها كما في صحيح البخاري (4900) ، وصحيح مسلم (2772) من حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ، قَالَ:
كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ، يَقُولُ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَدَعَانِي فَحَدَّثْتُهُ ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا ، فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ ، فَجَلَسْتُ فِي البَيْتِ ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ [المنافقون: 1] فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ .
وكما في صحيح البخاري (4905) ، وصحيح مسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ ، رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:" مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ " ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ:" دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ " ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، فَقَالَ: فَعَلُوهَا ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" دَعْهُ ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ".
ومما حكاه القرآن أيضا ، عن قائله ، بنفس لفظه : ما ذكره الله من قول الوليد بن المغيرة عن القرآن : ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) المدثر/24 .
روى الحاكم في "المستدرك" (3872) من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ ، فَأَتَاهُ ، فَقَالَ: يَا عَمُّ ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لَمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ !!
قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا.
قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ ، أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ .
قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ ؟ َوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا ، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً ، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى ، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ " ، قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ.
قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: " هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ؛ يَأْثُرُهُ مِنْ غَيْرِهِ .
فَنَزَلَتْ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر: 11] .
قال الحاكم : "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ" ، وصححه الألباني في "صحيح السيرة" (ص159) .
والحاصل :
أن ما جاء في القرآن من حكاية لكلام الناس ، إما أن يكون معنى كلامهم ، وليس بنفس ألفاظه ، وهذا هو الغالب فيما ورد في القرآن من ذلك .
وقد يحكي نفس كلام القائلين ، بألفاظه ، أو بقريب منها ، كما وقع في سورة المنافقين .
والله أعلم .
تعليق