الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

يسأل عن النصب والشواخص والمسلات في المشاعر المقدسة

256967

تاريخ النشر : 23-12-2016

المشاهدات : 56701

السؤال

أنا رجلٌ اعتنقت الإسلام. وكنت أجري أبحاثًا ودراسات مكثفة عن الإسلام وجميع علومه لسنوات، في تلك الأثناء كان إيماني يزدادا أكثر في كل مرة والحمد لله تعالى. أعتقد أنني في كل مرة أصبح مسلمًا أفضل شيئًا فشيئًا. وبصورةٍ واضحة، كنت أبحث عن معلومات جدية بشأن مسألة المسلّات، وقد اكتشفت في مكانٍ ما أن مكان رمي الجمرات في منى كان حتى عهدٍ قريب مسلّات قبل أن يتم استبدالها. وقد وجدتُ أيضًا أنه في جبل عرفة توجد مسلة بيضاء طويلة. المشكلة هي أنني لطالما اعتقدت أن المسلّات رموز لإبليس، وعلى الرغم من ذلك شعرت بالارتياح الشديد عندما لاحظت أن الرجم يكون باتجاه المسلّات. شعرت بشك كبيرٍ داخل قلبي عندما اكتشفت أن هناك مسلّة على جبل عرفة. واكتشفت في مكانٍ ما أن كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حويطب بن عبد العزى القرشي العامري رضي الله عنه كلفه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رحمه الله بتجديد اثنين من المسلّات على حدود المسجد الحرام بمكة المكرمة، وقد تسببت هذه المعلومة الأخيرة في شكوك أخرى أكثر تعقيدًا. هل يمكنك أن تخبرني من فضلك بما يقوله العلماء والمؤرخون المسلمون في العصور الوسطى (ابن تيمية، والقاضي عياض، وابن خلدون، والطبري، وغيرهم) في المسلّات، وأيضا بخصوص جميع الشكوك التي سألت عنها هنا؟ شكرًا.

ملخص الجواب

أن الشواخص التي تبنى للتنبيه، ولتكون علامة على مكان معين، وخاصة في تاريخنا الإسلامي، وحضارتنا الضاربة في القدم، لا يجوز ربطها بعلاقات شيطانية أو رمزية ماسونية بحال من الأحوال، لأنها إسلامية الأصول والمنابت، إبراهيمية التأسيس، ونبوية الإقرار والعمل، والإبليسية لا تلتقي مع إسلام الأنبياء الذي هو إسلام التوحيد لله رب العالمين. 

الجواب

الحمد لله.

ليس من الصواب ولا من المنهجية البحثية أن نخلق إشكالا في أذهاننا، ونبدأ في محاكمة الواقع له، رغم أنه في حقيقة الأمر ليس بإشكال أصلا، بدلا من أن نركز في بحثنا على الحقيقة التاريخية والواقعية، ثم نصحح ما في عقولنا من أوهام أو ظنون.

وما ورد في السؤال مثال واضح على هذا المزلق غير المنهجي، فالشواخص – ومنها المسلّات - لا يمكن أن تكون علامة حصرية للشيطان أو لإبليس، ولا يجوز أن نعتقد ارتباطها المطلق بالشر، أو رمزيتها على عالم الظلام، أو الماسونية كما يقال اليوم.

فالشواخص تبنى وتنصب لأغراض عديدة، تستعملها جميع الأمم، وتحضر في كثير من معالم البناء عبر التاريخ، قبل اختراع الماسونية، وقبل اختلاط الحضارات وانتقال معالمها فيما بينها. ذلك أن الشاخص ينصب ويراد به وضع علامة على أمر معين، يتفاوت طولا وقصرا بحسب الحاجة إليه، وتتنوع أشكاله الهندسية، منها ما تتساوى أضلاعه، ومنهما ما تتفاوت، ومنها ما يدق حرفه الأعلى ليقترب من المخروط الهرمي، ومنها ما يكون مستويا، ليس في شيء من ذلك علامة لازمة وضرورية على إبليس اللعين، ومن العبث ربط كل شاخص يرى على هذه البسيطة بمذاهب الماسونية السرية.

تماما كما نشاهد في أكثر الأمم والحضارات عبر التاريخ قواسم مشتركة في العديد من مظاهر العمران، سواء عمران البيوت، أو القصور، أو شق الطرق، أو بناء الهياكل الكبيرة، كلها تشترك في الكثير من هذه التصاميم، بحكم اشتراك علوم الهندسة والرياضيات وحياديتها، وهي التي استعان بها الإنسان عبر التاريخ لتشييد الأبنية. فالإنسان واحد، والهندسة واحدة، وما سينتج عنها سيكون متجانسا أيضا في العديد من مظاهره، ومن السذاجة أن يقال إن أحدا يمكنه مصادرة نوع من تلك الأبنية الإنسانية المشهورة عبر التاريخ ، ليقول إنها علامة حصرية على الشيطان، وكل من يستعمل هذا البناء فقد شارك الشيطان في بيته ورمزه! كما لو اتخذت بعض الطوائف اللون الأزرق مثلا شعارا للشر الذي تمارسه، فلا يعني ذلك أن هذا اللون أصبح حكرا عليهم أو ممنوعا على جميع البشر! هذا من المبالغات التي لا يقع فيها الباحثون أو المثقفون، وإنما عوام الناس الذين يخلطون المقايسات، ولا يزنونها بميزان معتدل.

ومن يقرأ عن "المسلات" في المراجع والموسوعات الحديثة يدرك تماما أنها تصميم قديم تشاركت فيه مجموعة من الحضارات، كالحضارة البابلية والأشورية والرومانية والفرعونية، بل حتى "الأهرامات" وجدت في حضارات أخرى ولكن بأحجام متفاوتة، ولم تكن حكرا على الفراعنة فحسب. فضلا عن ادعاء أنها رموز شيطانية!

https://en.wikipedia.org/wiki/Obelisk

وما نقلته في السؤال يؤكد ما قررناه نحن أعلاه، من مغالطة الخلط واتهام كل كلمة "شاخص" أو "نُصُب" يمر في كتب التاريخ وجغرافيا البلدان والرحلات أنها "مسلّات" شيطانية. هذا – في نظرنا – خطأ جسيم.

يقول الواقدي رحمه الله:

"وكان أول من نصب أنصاب الحرم إبراهيم، وجبريل يريه، ثم لم تحرك حتى كان إسماعيل فجددها، ثم لم تحرك حتى كان قصي فجدّدها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد أنصاب الحرم، ثم لم تحرك حتى كان عمر بن الخطاب، فبعث أربعة من قريش كانوا يبدون في بواديها: مخرمة بن نوفل، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، وأبو هود سعيد بن يربوع المخزومي. ثم كان عثمان بن عفان فبعث هؤلاء النفر، ثم كان معاوية عام حج فبعث هؤلاء النفر.

قال: فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، قال:

لما حج عبد الملك بن مروان أرسل إلى أكبر شيخ يعلمه يومئذ من خزاعة، وشيخ من قريش، وشيخ من بني بكر، ثم أمرهم بتجديده" انتهى من "المغازي" (2/842)، وانظر "الطبقات الكبرى لابن سعد، الطبقة الرابعة، متمم الصحابة" (ص270)، وغيرها من المراجع إنما تنقل عن الواقدي، كـ"أخبار مكة" للأزرقي (2/129) وغيرها.

بل ورد في حديث ضعيف، يرويه البزار – كما في "كشف الأستار" (2/42)- وعنه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/280) من طريق محمد بن الأسود بن خلف، عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجدد أنصاب الحرم عام الفتح)

يقول ابن القطان رحمه الله:

"وما مثله صحح؛ فإن الأسود بن خلف لا يُعرف روى عنه إلا ابنه محمد، وابنه محمد لا يعرف حاله" انتهى من " بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام (4/ 291)

ويقول الذهبي رحمه الله:

"محمد بن أسود بن خلف، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجدد أنصاب الحرم.

لا يعرف هو ولا أبوه. تفرد عنه عبد الله بن عثمان بن خثيم" انتهى من "ميزان الاعتدال" (3/ 485)

فالأنصاب هنا هي العلامات، أو ما يسمى في اللغة أيضا "الأعلام"، وهي الشواخص البارزة التي توضع لتنبيه الناس إلى أمر معين، كالحدود بين الدول والمدن، وأسماء الشوارع والأحياء، وهكذا كل شاخص يجوز أن يسمى "نصب"، أو "علم".

كما سميت من قبل تلك العلامات التي حددها إبراهيم عليه السلام لحدود منطقة "الحرم"، التي تفصل بينه وبين "الحل"، فمضى الناس عليها إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى عهد الخلفاء الراشدين، وأمر عمر بن الخطاب جماعة من الخبراء – منهم حويطب – أن يجددوها، أي أن يثبتوها في مكانها مع رعاية إبرازها كي لا تندثر مع مرور الوقت، فهي علامات صناعية، يتخذها الإنسان من الطوب أو الحديد أو أي شيء يمكن أن يساهم في تنبيه الرائي والناظر، ومهما كان شكلها وطريقة بنائها، تستوي في أداء الوظيفة الإعلامية، ولهذا لا بد أن يجتمع فيها وصف "الطول" و "البروز"، مع لون واضح، كي تؤدي وظيفة التحديد والتنبيه بدون لبس أو خفاء.

هذا ، مع أن هذه الحدود والعلامات : إنما كانت لضبط حدود الحرم ، وتمييزه عن الحِل ، وليس على خصوص "المسجد الحرام" ، كما ورد في السؤال .

ونحوها أيضا تلك العلامة التي كانت قديما على أعلى جبل عرفات، كما نقله محمد بن أحمد المقدسي البشاري (ت نحو 380هـ) في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" (ص: 77) قال: "وعَلَمٌ قد بُني يقف خلفه الإمام للدعاء والناس حوله". وقال أيضا (ص: 77): "وعلى حدّ عرفة أعلام بيض".

كلها نُقول تاريخية تؤكد الحقيقة الواضحة، أن الشواخص التي تبنى للتنبيه، ولتكون علامة على مكان معين، وخاصة في تاريخنا الإسلامي، وحضارتنا الضاربة في القدم، لا يجوز ربطها بعلاقات شيطانية أو رمزية ماسونية بحال من الأحوال، لأنها إسلامية الأصول والمنابت، إبراهيمية التأسيس، ونبوية الإقرار والعمل، والإبليسية لا تلتقي مع إسلام الأنبياء الذي هو إسلام التوحيد لله رب العالمين.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب