الحمد لله.
الأحكام الشرعية نوعان:
الأول: ما كان معللا، وعُرفت علته بالنص أو بالاستنباط، فإذا انتفت العلة انتفى الحكم، ومن قواعد الفقه: الحكم يدور مع علته وجوداً أو عدماً.
قال ابن القيم رحمه الله: " ولهذا إذا علَّق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالها، كالخمر علق بها حكم التنجيس، ووجوب الحد لوصف الإسكار . فإذا زال عنها وصارت خلًا زال الحكم.
وكذلك وصف الفسق : علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه.
وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء : تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها.
والشريعة مبنية على هذه القاعدة" انتهى من "إعلام الموقعين" (5/ 528).
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
" وكلُّ حكم دائرٌ مع عِلّتهْ *** وهي التي قد أوجبتْ شرعيَّتَهْ
قال الشيخ سعد الشثري حفظه الله في شرحه:
"هذا البيت متعلق بدوران الحكم الشرعي مع علته، والمراد بالحكم هنا: قد يراد به الأحكام الشرعية فقط، وقد يراد به عموم الأحكام حتى في أمورنا الخاصة: في أطعمتنا، وأدويتنا، وغيرها.
وقوله: "دائر" يعني: أنه يثبت الحكم إذا وجدت علته، وينتفي الحكم إذا انتفت علته .
والمراد بالعلة في اللغة ما اقتضى تغيرا؛ لذلك قيل: علة المريض .
وفي الاصطلاح يراد بالعلة: الوصف الظاهر المنضبط الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه مصلحة...
والعلة تؤخذ من الأدلة الشرعية، فتؤخذ من صريح الأدلة مثل: إذا ورد مع اللفظ "من أجل" أو "كي" أو "إن" هذا يسمى دلالة صريحة على العلة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " (إنما حرم ذلك من أجل الدافة) يعني: ادخار لحوم الأضاحي.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) "إن" هنا حرف تعليل صريح، ومثل قوله عز وجل : ( كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) "كي"، هذه أدوات صريحة للتعليل.
وقد يكون بطريق التنبيه، مثل قوله - عز وجل – ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) رتب الحكم: ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) على الوصف: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالفاء، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وصف مناسب للحكم.
ومثل قوله: (من بدل دينه فاقتلوه) رتبه بصيغة الجزاء، فهذه تسمى دلالة تنبيه على العلة، وليست صريحة مثل الأولى.
وقد يكون بطريق الإجماع، بأن تُجمع الأمة على هذا الوصف هو علة الحكم.
وقد يكون بطريق الاستنباط، نستنبط أن هذا الوصف هو علة الحكم ...
هذه القاعدة، وهي: كون الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، يدل عليها كلُّ دليل دال على العلية، فإن معنى كون الوصف علة أن يثبت الحكم بوجوده، وينتفي بانتفائه، ولا زال العقلاء يستخدمون هذه القاعدة في سائر حياتهم، حتى في الأدوية والأغذية، في أحكامهم على مجريات الأمور.
ولا بد أن يلاحظ أن الوصف لا بد أن يتوفر فيه عدد من الشروط حتى يكون علة صحيحة، مثل أن يكون منضبطا، فلا يصح التعليل بالأوصاف غير المنضبطة، ومنها ألا يعود على أصله بالإبطال، فإذا عاد الوصف على أصله المسألة بالإبطال لم يصح التعليل به.
مثال ذلك: الحنفية قالوا بأن العلة في بدأ الصلاة بالتكبير هو تعظيم الله - عز وجل - ؛ فلو ابتدأ الإنسان الصلاة بقوله: الله أعظم أو الله العظيم، أجزأه ذلك، وقال الجمهور: لا يجزئه.
وهذه العلة تعود على أصل الحكم بالإبطال، وأصل الحكم هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " وتحريمها التكبير " ؛ ومما يؤخذ بدلالة اللغة : انحصار المبتدأ في الخبر ، معناه: أنه لا يقع تحريم للصلاة إلا بالتكبير، فلو قلنا: إن العلة هي تعظيم الله؛ فإنه حينئذ تعود على أصلها، وهو الحديث بالإبطال، إلى غير ذلك من شروط التعليل" انتهى من "شرح منظومة القواعد الفقهية"، ص119 ترقيم الشاملة
وقال الدكتور محمد صدقي آل بورنو في "موسوعة القواعد الفقهية" (3/ 195) في شرح قاعدة "الحكم يدور مع علته وجودا وعدما":
" إذا وجدت العلة أو السبب ثبت الحكم بها، فإذا زالت العلة أو السبب ، زال الحكم بزوالها ، وانتهى بانتهائها؛ لأن الحكم يدور مع علته وسببه وجوداً وعدماً".
وذكر من أمثلة القاعدة ما يلي:
" ومنها: الجلّالة التي تأكل النجاسة ، قد نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا حبست حتى تطيب، كَانت حلالاً باتفاق المسلمين؛ لأن علة النهي والتحريم كانت النجاسة، فلما زالت، صارت طاهرة.
ومنها: الخمر المنقلبة بنفسها إلى الخَلَّية: تطهر باتفاق المسلمين، فإن النجاسة إذا زالت بأي وجه زال حكمها" انتهى.
والنوع الثاني من الأحكام: الاحكام التي لا نعلم علتها ، وتسمى التعبدية، أو غير معقولة المعنى، وهذه لا تنتفي بانتفاء العلة؛ لعدم الوقوف على علتها.
ومن ذلك تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفّارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث.
وينظر: علم أصول الفقه، للدكتور عبد الوهاب خلاف، ص62
وأكثر الأحكام من النوع الأول، وهو المعلل المعروف علته.
على أننا ننبه تنبيها مؤكدا : أن البحث في العلة ومسالكها ، وتعليل الأحكام الشرعية من عدمه ، والنظر في ثبوت العلة أو انتفائها ، وما يتعلق بذلك كله = هذا البحث إنما هو وظيفة العالم الفقيه ، والإمام المجتهد ، لا وظيفة آحاد الناس ، ولو بلغ من الثقافة ما بلغ ، أو الشهادات ما حصل ؛ فإن ذلك البحث ليس من شأنه ، ولا من وظيفته ، إنما هي وظيفة من ذكرنا .
ومن سواه من الناس ؛ فإنما عليه أن يسأل عالم وقته ، وبلده ، الذي اشتهر علمه ، وثبتت أمانته، ثم يأخذ بقوله ، ويعمل بفتواه ، وهذا فرض العامي ، ومنتهاه .
والله أعلم.
تعليق