الحمد لله.
أولا :
وقعة الحَرَّة، هي فتنة وقعت بين أهل المدينة وجنود يزيد بن معاوية، في سنة ثلاث وستين هجرية .
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى، عن يوم الحَرَّة:
" وهو يوم مشهور في الإسلام، أيام يزيد بن معاوية، لما انتهب المدينةَ عسكرُه من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين، وأمَّر عليهم مسلم بن عقبة المُرِّي في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد. والحَرَّة هذه: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة، وكانت الوقعة بها " انتهى من "النهاية في غريب الحديث" (1 / 365).
وسببها كما لخصه ابن حجر رحمه الله تعالى؛ حيث قال :
" وكانت وقعة الحرة في سنة ثلاث وستين، وسببها أن أهل المدينة خلعوا بيعة يزيد بن معاوية لما بلغهم ما يتعمده من الفساد، فأمر الأنصارُ عليهم عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وأمر المهاجرون عليهم عبد الله بن مطيع العدوي " انتهى من "فتح الباري" (8 / 651).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ولما خرج أهل المدينة عن طاعته وخلعوه، وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة، لم يذكروا عن يزيد - وهم أشد الناس عداوة له - إلا ما ذكروه عنه من شربه الخمر، وإتيانه بعض القاذورات، لم يتهموه بزندقة كما يقذفه بذلك بعض الروافض، بل قد كان فاسقا، والفاسق لا يجوز خلعه؛ لما يؤدي ذلك إليه من الفتنة ووقوع الهرج، كما وقع زمن الحرة " انتهى من "البداية والنهاية" (11 / 652).
ولهذا كان بعض أهل المدينة من أفاضل الصحابة غير موافقين على خلع يزيد عن الخلافة؛ بل نهوهم عن فعل ذلك، ومن أشهرهم عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: ( لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ، حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ )، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ) رواه البخاري (7111) .
وعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ، حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَرَّةِ مَا كَانَ، زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اطْرَحُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكَ لِأَجْلِسَ، أَتَيْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ) رواه مسلم (1851).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحدا بعد بيعته ليزيد ... " انتهى من "البداية والنهاية" (11 / 652) .
ولما بلغ يزيد ما فعل أهل المدينة من خلعه، أرسل إليهم جيشا، وأمّر عليه شخصا يدعى مسلم بن عقبة، وكانت فيه غلظة وجرأة، وأمره أن يدعو أهل المدينة ثلاثا إلى الرجوع عن خلعه، فرفضوا، فكانت فتنة، وقتل مسلم بن عقبة خلقا من أهل المدينة ثم أجبر من بقي من أهلها على البيعة ليزيد .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
" أخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون ... لما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد وعابه ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه. فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير، وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوما من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال ودخلوا المدينة خوفا على أهلهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء" انتهى من"فتح الباري" (13 / 70 – 71) .
وقد لُقِّب مسلم بن عقبة هذا بـ"مُسرف" لما ألحقه بأهل المدينة من قتل ونهب.
وقد وردت روايات بتفاصيل فظيعة، مما ألحقه مسلم بن عقبة بأهل المدينة من أذى، والله أعلم بحالها ؛ لكن ظلم مسلم بن عقبة لأهل المدينة ثابت عند أهل العلم، على كل حال؛ ولأجل هذا شنعوا على يزيد بن معاوية.
روى الخلال في كتاب "السنة" (3 / 520)؛ قال:
" أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا مُهَنَّى، قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: هُوَ فَعَلَ بِالْمَدِينَةَ مَا فَعَلَ؟ قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: قَتَلَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَ، قُلْتُ: وَمَا فَعَلَ؟ قَالَ: نَهَبَهَا " انتهى.
ثانيا :
عن أُمِّ حَرَامٍ: أَنَّهَا سَمِعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ البَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا.
قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟
قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ.
فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: لاَ. ) رواه البخاري (2924) .
وأول جيش غزا مدينة قيصر (القسطنطينية) كان في خلافة معاوية رضي الله عنه، وكان أمير الجيش ابنه يزيد بن معاوية.
عن مَحْمُود بْن الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيّ: أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ... قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ).
قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ: فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ ... ) رواه البخاري (1186).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله ( عليهم ) أي كان أميرا، وذلك في سنة خمسين وقيل بعدها في خلافة معاوية، ووصلوا في تلك الغزوة حتى حاصروا القسطنطينية " انتهى من "فتح الباري" (3 / 62).
ثالثا:
قد يشكل كيف كان يزيد بن معاوية أميرا على أول جيش غزا مدينة قيصر، وقد كان من فسقه ما كان ، وفعل بالمدينة وأهلها ما فعل ؟
وجواب ذلك :
أن الوعد بالمغفرة لأول جيش يغزو مدينة قيصر ، لا يلزم منه وقوع المغفرة لكل فرد فرد من جملة هذا الجيش ؛ بل هو وعد عام ، وبيان أن هذا سبب للمغفرة .
لكن السبب قد يمنع منه مانع أقوى ، فيتخلف عن مسببه .
وليس هذا بموجب الجزم بعقابه ، أو بعذابه عند الله ، بل هو ممن خلط عملا صالحا ، فجاهد وغزا ، وآخر سيئا ، بفسقه ، واستباحته من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ما استباح .
قال الله تعالى:
( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) التوبة (102).
فعلى عقيدة أهل السنة والجماعة لا إشكال في هذا، فإن الكبائر كالقتل لا يكفر بها صاحبها؛ بل يعتبر فاسقا لا كافرا، والمسلم الذي يخلط بين السيئات والحسنات ليس محروما من رحمة الله تعالى ومغفرته بل هو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" بل يزيد مع ما أحدث من الأحداث، من قال فيه: إنه كافر مرتد، فقد افترى عليه. بل كان ملكا من ملوك المسلمين كسائر ملوك المسلمين، وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات، وحسناتهم عظيمة، وسيئاتهم عظيمة، فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه، إما جاهل وإما ظالم.
وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين، منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته، ومنهم من قد تاب من سيئاته، ومنهم من كفر الله عنه، ومنهم من قد يدخله الجنة، ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته، ومنهم من قد يتقبل الله فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء، فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 / 473) .
وقال أيضا:
" افترق الناس في " يزيد " بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق: طرفان ووسط...
والقول الثالث: أنه كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا؛ ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع " الحسين " وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبا ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4 / 481 - 483).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (14007) ورقم (241102) .
والله أعلم.
تعليق