الحمد لله.
أولا:
قد وردت عدة روايات بمثل هذا الخبر، لكن لا يصح منها شيء ، وهي متضاربة المعنى ، لا تكاد تتفق.
فرواية الطبري - ولعلها هي التي اعتمدها الكاتب – وقد أوردها الطبري في "تاريخه" (4 / 340 - 341)؛ حيث قال: فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: ( كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء ... فدعا – أي عثمان - محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالا سواهم، فرجعوا جميعا قبل عمار ... واستبطأ الناس عمارا حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فلم يفجأهم إلا كتاب من عبد الله ابن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمارا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه، منهم عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر ).
وهذه رواية ضعيفة السند منكرة المعنى.
فأما من جهة السند: ففيه سيف وهو ابن عمر التميمي، وقد ضعفه أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" سيف بن عمر التميمي، صاحب كتاب الردة، ويقال له الضبي، ويقال غير ذلك، الكوفي ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ، أفحش ابن حبان القول فيه " انتهى. "تقريب التهذيب" (ص 262).
وشعيب الرواي عنه هو شعيب بن إبراهيم، وهو مجهول وأحاديثه فيها نكارة، قال عنه ابن عدي:
" وشعيب بن إبراهيم هذا له أحاديث وأخبار، وهو ليس بذلك المعروف، ومقدار ما يروي من الحديث والأخبار ليست بالكثيرة وفيه بعض النكرة؛ لأن في أخباره وأحاديثه ما فيه تحامل على السلف " انتهى. "الكامل في ضعفاء الرجال" (5 / 7).
وراوي الخبر يزيد الفقعسي لا يعرف من هو.
فالرواية ضعيفة من حيث السند.
وأما من حيث المتن فعمار بن ياسر رضي الله عنه هو من أكابر الصحابة، وكان في زمن هذه الحادثة كبيرا في السن، قد جرّب الحياة والإمارة وخبر الحروب ومكر الأعداء، فهل يعقل أن شيخا تقيا عاقلا مجربا يعيش بجوار عثمان ويصلي معه في مسجد واحد، هل يعقل أن يستمع لكلام أناس بعضهم من المجاهيل يقيمون بعيدا عن المدينة بمسافات بعيدة، ليخبروه عن تصرفات عثمان الذي هو أعرف به منهم؟!
فهذا خبر ساقط السند والمعنى.
وبينما تصور هذه الرواية أن عمارا رضي الله عنه كان ضحية لمكر أصحاب الفتنة ، نجد روايات أخرى تزعم أن عمارا رضي الله عنه لم يكن ضحية لأصحاب الفتنة بل خرج من المدينة وهو عازم على إثارتها.
فروى عمر بن شبة في "تاريخ المدينة" (3 / 1122)؛ قال: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: ( دَعَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ إِنَّ لَكَ سَابِقَةً وَقِدْمًا، وَقَدْ عَرَفَكَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَمْرَحَ أَهْلُ مِصْرَ وَاسْتَعْلَى أَمْرُهُمْ وَبَغْيُهُمْ عَلَيَّ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِمْ فَتُعْتِبَهُمْ مِنْ كُلِّ مَا عَتَبُوا، وَتَضْمَنَ ذَلِكَ عَلَيَّ، وَتَقُولَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْشُرَ الْحُسْنَى، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يُطْفِئَ بِكَ ثَائِرَةً، وَيُلِمَّ بِكَ شَعْثًا، وَيُصْلِحَ بِكَ فَسَادًا.
وَأَمَرَ لَهُ بِحِمْلَانٍ وَنَفَقَةٍ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا مَا أَقَامَ عِنْدَهُ. فَخَرَجَ عَمَّارٌ إِلَى مِصْرَ وَهُوَ عَاتِبٌ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَلَّبَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَأَشْعَلَ أَهْلَ مِصْرَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَتَبَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عَمَّارًا قَدِمَ عَلَيْنَا فَأَظْهَرَ الْقَبِيحَ، وَقَالَ مَا لَا يَحِلُّ ، وَأَطَافَ بِهِ قَوْمٌ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَلَا الْقُرْآنِ، وَكَتَبَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي عُقُوبَتِهِ وَأَصْحَابِهِ , فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ يَا ابْنَ أَبِي سَرْحٍ، أَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ أَرْضَى بِهِ - اعْلَمْهُ - مِنْ أَنْ آذَنَ لَكَ فِي عُقُوبَةِ عَمَّارٍ أَوْ أَحَدِ أَصْحَابِهِ، فَقَدْ وَجَّهْتُ عَمَّارًا وَأَنَا أَظُنُّ بِهِ غَيْرَ الَّذِي كَتَبْتَ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ الَّذِي كَانَ فَأَحْسِنْ جِهَازَهُ وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ، فَلَعَمْرِي إِنِّي لِعَلَى يَقِينٍ أَنِّي أَسْتَكْمِلُ أَجَلِي وَأَسْتَوْفِي رِزْقِي وَأُصْرَعُ مَصْرَعِي، فَقَدِمَ الْكِتَابُ عَلَى ابْنِ أَبِي سَرْحٍ فَحَمَلَ عَمَّارًا إِلَى الْمَدِينَةِ ).
وهذا خبر مرسل غير متصل السند، قال أبو زرعة: " محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عثمان مرسل " من "المراسيل لابن أبي حاتم" (ص 184).
ومثل هذه الأخبار المرسلة حتى وإن صح سندها إلى مرسلها، لا يليق بمسلم وباحث أن يتقبلها كحقيقة ثابتة؛ لأن مما يستنتج من أخبار فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه؛ هو أنه كانت هناك جهة مجهولة تبث الأخبار المكذوبة بين الناس في البلدان خارج المدينة لأجل إحداث فتنة، ولعل مثل هذه الأخبار المرسلة كانت منها.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وسبب ذلك – أي قدوم الأحزاب من مصر إلى المدينة- أن أهل الأمصار لما بلغهم خبر مروان وغضب علي على عثمان بسببه، ووجدوا الأمر على ما كان عليه لم يتغير، وتكاتب أهل مصر وأهل الكوفة وأهل البصرة وتراسلوا، وزورت كتب على لسان الصحابة الذين بالمدينة، وعلى لسان علي وطلحة والزبير، يدعون الناس إلى قتال عثمان ونصر الدين، وأنه أكبر الجهاد اليوم " انتهى. "البداية والنهاية" (10 / 277).
ومما يشير إلى هذه القضية، قول ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: ( لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ ) رواه مسلم في "مقدمة صحيحه" (1 / 15).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( فلما وقعت الفتنة قالوا : سموا لنا رجالكم ) هذه الفتنة يعني بها - والله أعلم -: فتنة قتل عثمان، وفتنة خروج الخوارج على علي ومعاوية؛ فإنهم كفروهما حتى استحلوا الدماء والأموال...
فيعني بذلك - والله أعلم -: أن قتلة عثمان والخوارج لما كانوا فساقا قطعا، واختلطت أخبارهم بأخبار من لم يكن منهم، وجب أن يبحث عن أخبارهم فترد، وعن أخبار غيرهم ممن ليس منهم فتقبل، ثم يجري الحكم في غيرهم من أهل البدع كذلك " انتهى. "المفهم" (1 / 123).
كما أن هذا الخبر فيه أن عمارا أضمر الغش والخديعة، وهذا يخالف الحقائق الثابتة عن شخصيات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وروى ابن شبة رواية أخرى "تاريخ المدينة" (3 / 1123)؛ قال حدثنا مَعْمَرُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَتَبَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ إِلَى عُثْمَانَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ بَعَثْتَ قَوْمًا لِيَقُومُوا بِضَرَرِكَ، وَإِنَّهُمْ يُحَرِّضُونَ عَلَيْكَ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي ضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ فَلْيَفْعَلْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتَ يَا ابْنَ أَبِي سَرْحٍ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ فِي قَتْلِ قَوْمٍ فِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، أَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ أَرْضَى مِنْ أَنْ آذَنَ لَكَ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمْ مَا صَحِبُوكَ، فَإِذَا أَرَادُوا فَأَحْسِنْ جِهَازَهُمْ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَأْتِيَنِي عَنْكَ خِلَافُ مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ ).
وهذا خبر مرسل غير متصل السند فصالح بن كيسان إنما يروي عن التابعين، ورأى بعض من تأخرت وفاته كابن عمر رضي الله عنه، فالأصل في مثله أنه لم يدرك الحادثة وإنما يرويها بواسطة.
ومعمر بن بكار، حكم عليه أبو حاتم بالجهالة.
قال ابن ابي حاتم :
" هشام بن ابى هشام الحنفي روى عن زيد العمي روى عنه معمر بن بكار السعدي سمعت أبي يقول ذلك ويقول: هما مجهولان هشام بن ابى هشام ومعمر " انتهى. " الجرح والتعديل" (9 / 69).
ونص العقيلي في كتابه "الضعفاء" (4 / 207)؛ على أنّ في حديثه وهما، ولا يتابع على أكثره.
وروى ابن شبة أيضا في "تاريخ المدينة" (3 / 1123)؛ قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إِلَى عَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ وَبَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَقَامَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، وَعَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ مِنْ شَعْرٍ، مُعْتَمٌّ عَلَيْهَا بِعِمَامَةٍ وَسِخَةٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ فِرَاءٍ يَمَانِيَةٌ، فَأَقْبَلَ مَعِي حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ إِنْ كُنْتَ عِنْدَنَا لَمِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَكُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا، فَمَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ مِنْ سَعْيِكَ فِي فَسَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأْلِيبِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَأَهْوَى عَمَّارٌ بِعِمَامَتِهِ فَنَزَعَهَا عَنْ رَأْسِهِ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمَّارُ أَحِينَ كَبِرَتْ سِنُّكَ، وَنَفِدَ عُمْرُكَ، وَاقْتَرَبَ أَجَلُكَ خَلَعْتَ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقَكَ، وَخَرَجْتَ مِنَ الدِّينِ عُرْيَانًا! فَقَامَ عَمَّارٌ مُغْضَبًا وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطْتَ يَا عَمَّارُ ).
وأبو عمرو هذا هو الزهري وهو عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري.
فهو الذي يروي عنه علي بن محمد كما في "الطبقات الكبرى" (1 / 130).
وشيخه إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، هو ابن عم لوالده.
وبناء على هذا؛ فهذه رواية ضعيفة لأن أباعمرو هذا قد ضعفه أهل العلم؛ قال ابن حجر رحمه الله تعالى في "التقريب" (ص 385):
" عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد ابن أبي وقاص الزهري الوقاصي أبو عمرو المدني ... متروك وكذبه ابن معين " انتهى.
ثانيا:
قد صح أن عمارا رضي الله عنه كان عاتبا على عثمان بعض سياسته وتصرفاته.
لكن مما يقطع به أن صفة عتبه وإنكاره لا تبلغ إلى النحو الذي كان عليه ابن سبأ ومن معه؛ ولا تتحد معهم في المقصد.
فعمار غاية ما صدر منه أنه كان مخاصما لعثمان رضي الله عنه، وقد تخاصم عدد من الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موته ، لاختلاف وجهات النظر وغير ذلك من الأسباب المعهودة بين البشر ، وصدر منهم كلام في حق بعضهم البعض ، ولم ينقص ذلك من مقدارهم لأنهم كانوا مجتهدين في خصوماتهم تلك، ولم يكن عمار وهو في سن الشيخوخة متطلعا لدنيا ولا لمنصب.
بينما أهل الفتنة فقد كان خصامهم لعثمان رضي الله عنه خصام فتنة ، ولأجل متاع الدنيا وكانوا يتصيدون الأخطاء ويبالغون فيها؛ كما لخص حالهم ابن خلدون رحمه الله تعالى؛ حيث قال:
" لما استكمل الفتح، واستكمل للملّة الملك، ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة والكوفة والشام ومصر، وكان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهداه وآدابه المهاجرين والأنصار من قريش وأهل الحجاز ومن ظفر بمثل ذلك من غيرهم.
وأما سائر العرب من بني بكر بن وائل وعبد القيس وسائر ربيعة والأزد وكندة وتميم وقضاعة وغيرهم، فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان ، إلّا قليلا منهم ، وكان لهم في الفتوحات قدم، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السابقة من الصحابة ومعرفة حقهم، وما كانوا فيه من الذهول والدهش لأمر النبوة ، وتردّد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال بعض الشيء ، وذلّ العدو واستفحل الملك، كانت عروق الجاهلية تنفض، ووجدوا الرئاسة عليهم للمهاجرين والأنصار من قريش وسواهم، فأنفت نفوسهم منه، ووافق أيام عثمان ، فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار، والمؤاخذة لهم باللحظات والخطرات، والاستبطاء عليهم في الطاعات، والتجني بسؤال الاستبدال منهم والعزل، ويفيضون في النكير على عثمان، وفشت المقالة في ذلك من أتباعهم وتنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم ... " انتهى. "تاريخ ابن خلدون" (2 / 586 - 587).
ومما يؤكد أن خصام عمار لم يكن كخصام هؤلاء الخارجين على عثمان رضي الله عنه، هو أنه لو كان عمار مشاركا لهذه الفئة في فسادها ، لظهر دوره في المدينة لما حوصر عثمان ، ولاجتمع حوله أهل الفتنة، بينما لا نجده كذلك، فشخصية عمار غائبة تماما أثناء حصار عثمان؛ فلا تكاد تذكر حتى في الأخبار الضعيفة.
وقد نص أهل العلم على أن جميع الصحابة برآء من دم عثمان رضي الله عنه، وأن من تساهل في أمره لم يكن يتصور هذه العاقبة التي صار إليها الأمر.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: " وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين خذلوه كرهوا الفتنة وظنوا أن الأمر لا يبلغ قتله، فلما قتل ندموا على ما ضيعوا في أمره " انتهى. "تاريخ الإسلام" (2 / 245).
وللفائدة يحسن مطالعة كتاب "فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه" للدكتور محمد بن عبد الله الغبان.
وكتاب "مواقف الصحابة في الفتنة" للدكتور محمد أمحزون.
وينظر جواب السؤال (127028 )، (302601 )
والله أعلم.
تعليق