الحمد لله.
أولا:
برّ الوالدين كلمة جامعة للإحسان إلى الوالدين وإرضائهما.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (8 / 63):
" من معاني البر في اللغة: الخير والفضل والصدق والطاعة والصلاح .
وفي الاصطلاح: يطلق في الأغلب على الإحسان بالقول اللين اللطيف الدال على الرفق والمحبة، وتجنب غليظ القول الموجب للنفرة، واقتران ذلك بالشفقة والعطف والتودد، والإحسان بالمال وغيره من الأفعال الصالحات." انتهى.
فبر الوالدين يشتمل على عدة جوانب:
الجانب الأول: توقير الوالدين ومعاملتهما بألطف ما تكون المعاملة الحسنة المتعارف عليها بين أصحاب الفطر السليمة.
قال الله تعالى: ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان (14 – 15).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ( وَلِوَالِدَيْكَ ) بالإحسان إليهما بالقول اللين، والكلام اللطيف، والفعل الجميل، والتواضع لهما، وإكرامهما وإجلالهما، والقيام بمئونتهما ، واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه، بالقول والفعل " انتهى، من "تفسير السعدي" (649).
وقال الطاهر ابن عاشور رحمه الله تعالى:
" والمعروف: الشيء المتعارف المألوف الذي لا ينكر، فهو الشيء الحسن، أي صاحب والديك صحبة حسنة، وانتصب ( مَعْرُوفًا ) على أنه وصف لمصدر محذوف مفعول مطلق لـ ( صَاحِبْهُمَا )، أي صحابا معروفا لأمثالهما.
وفهم منه : اجتناب ما ينكر في مصاحبتهما " انتهى، من " التحرير والتنوير" (21 / 161).
ويدخل في هذا لين الكلام والرحمة والشفقة بهما .
قال الله تعالى: ( وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء (23 - 24).
ويصل اللين والأدب مع الوالدين إلى الحد الذي يفهم منه الناظر علو منزلتهما عند الولد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه :
( أنه أَبْصَرَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: لِأَحَدِهِمَا مَا هَذَا مِنْكَ؟ فَقَالَ: أَبِي.
فَقَالَ: لَا تُسَمِّهِ بِاسْمِهِ، وَلَا تمش أمامه، ولا تجلس قبله ) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (44)، وصححه الألباني في "صحيح الأدب المفرد".
الجانب الثاني:
إعانتهما في أعمالهما والإنفاق عليهما إن احتاجا.
عن طَيْسَلة بْن مَيّاس قَالَ: ( قال لي ابن عمر: أتفرق من النَّارَ، وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟
قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ!
قَالَ: أَحَيٌّ وَالِدُكَ؟
قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي.
قَالَ: فَوَاللَّهِ! لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ، وَأَطْعَمْتَهَا الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر ) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (8)، وصححه الألباني في "صحيح الأدب المفرد".
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى:
" وأجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما، ولا مال، واجبة في مال الولد.
كذلك قال مالك، والثوري، والحسن بن صالح، والشافعي، والنعمان وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور " انتهى. "الإشراف" (5 / 167).
الجانب الثالث : طاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن معصية، أو أمر مضر بالولد ولا مصلحة فيه للوالد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر، فإن شق عليه ولم يضره وجب وإلا فلا " انتهى. "الفتاوى الكبرى" (5 / 381).
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : ( أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ؟
قَالَ: أَبَوَايَ.
قَالَ: أَذِنَا لَكَ؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا ) رواه أبو داود (2530)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2 / 105).
فإذا كانت طاعتهما مطلوبة في ترك أمر شديد الاستحباب كالجهاد؛ فوجوب طاعتهما في كل ما دونه أولى .
ويجب على الولد أن يجاهد نفسه ، ويصبر على القيام بهذه المعاملة الحسنة لوالديه ولا يتضجر من ذلك أبدا.
قال الله تعالى:
( وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ) الإسراء (23).
الجانب الرابع:
الإحسان إليهما بعد وفاتهما بالدعاء لهما ، وإكرام أصدقائهما.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ، إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ؟
قَالَ: بَلَى.
فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا ، وَالْعِمَامَةَ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ.
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: غَفَرَ اللهُ لَكَ! أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ!
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ ).
وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ . رواه مسلم (2552).
ثانيا:
لا شك أن مؤانسة الوالد بالحديث وإدخال السرور عليه بإظهار الاهتمام بكلامه؛ كل هذا من الإحسان المتعارف عليه.
لكن إذا كان من طبع الوالد قلة الكلام، فعلى الولد في هذه الحالة أمران:
الأمر الأول: أن يلاطفه بالكلام الحسن ما يستطيع، بالسلام عليه في الدخول والخروج والتبسم له والسؤال عن أحواله ومطالبه .
وأما ما زاد على ذلك ، مما لا يستطيع مباسطة الوالد فيه ، بسبب مزاجه : فهو معذور فيه ، ولا حرج عليه في عدم القيام به .
الأمر الثاني:
على الولد أن يراعي نفسية والده ومزاجه؛ فإذا كان طول الحديث يزعجه، فمن البر في هذه الحالة عدم الإثقال عليه بالكلام ، وعدم إزعاجه بالحديث الكثير؛ لأن الغاية من البر أن ترضي والدك، فإذا كانت قلة الكلام ترضيه فلتقلل من الكلام.
وهذا مقتضى ظاهر حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ ) رواه الترمذي (1899) وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2 / 340).
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" وإذا قيل: فما هو البر الذي أمر الله به ورسوله؟
قيل: قد حَدَّه الله ورسوله بحد معروف، وتفسير يفهمه كل أحد. فالله تعالى أطلق الأمر بالإحسان إليهما. وذكر بعض الأمثلة التي هي أنموذج من الإحسان. فكل إحسان قولي أو فعلي أو بدني، بحسب أحوال الوالدين والأولاد والوقت والمكان، فإن هذا هو البر.
وفي هذا الحديث: ذكر غاية البر ونهايته التي هي رضى الوالدين؛ فالإحسان موجِب وسبب، والرضى أثر ومسبَّب. فكل ما أرضى الوالدين من جميع أنواع المعاملات العرفية، وسلوك كل طريق ووسيلة ترضيهما، فإنه داخل في البر " انتهى. " بهجة قلوب الأبرار" (ص 216).
والله أعلم.
تعليق