الحمد لله.
فإن هذا الكلام المنقول في السؤال ليس بحديث بهذا السياق ، وإنما هو مركب من عدة أحاديث منها الصحيح ، ومنها الضعيف ، ومنها ما لا أصل له ، فجمعه بعض الدعاة على سبيل الحكاية ، وبيان حكم كل جزء منها تفصيلا كما يلي :
أما الجزء الأول : وهو تعذيب أبي جهل لعبد الله بن مسعود بالمسمار ، فهذا لا أصل له ، وإنما الذي ورد أنه كان يؤذي عبد الله بن مسعود بغير ذلك ، ومما ورد في ذلك :
ما أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" كما نقله ابن هشام في "السيرة" (1/634 - 636) ، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5490) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/84) ، من طريق ابن إسحاق قال : حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في قصة قتل أبي جهل قال : قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ:( فَأَدْرَكْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ ، فَعَرَفْتُهُ ، فَوَضَعْتُ رِجْلَيَّ عَلَى عُنُقِهِ ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ ضَبِثَ بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُوَّ اللهِ؟ قَالَ: وَبِمَا أَخْزَانِي أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّبْرَةُ الْيَوْمَ؟ قَالَ: قُلْتُ: للَّهِ وَلِرَسُولِهِ ).
وإسناده حسن ، لأجل محمد بن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث .
وموضع الشاهد على التعذيب في الأثر قوله :" وقد كان ضبث بي مرة بمكة ، فآذاني ولكزني ".
ومنها ما أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (5263) ، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/83) ، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/87) ، من طريق الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود ، قَالَ:( انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ صَرِيعٌ وَعَلَيْهِ بَيْضَتُهُ وَمَعَهُ سَيْفٌ جَيِّدٌ ، وَمَعِي سَيْفٌ رَدِيءٌ ، فَجَعَلْتُ أَنْقُفُ رَأْسَهُ بِسَيْفِي ، وَأَذْكُرُ نَقْفًا كَانَ يَنْقُفُ رَأْسِي بِمَكَّةَ حَتَّى ضَعُفَتْ يَدُهُ ، فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ: عَلَى مَنْ كَانَتِ الدَّبْرَةُ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا ، أَلَسْتَ رُوَيْعِينَا بِمَكَّةَ؟ فَقَتَلْتُهُ ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ ، فَقَالَ: آللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ فَاسْتَحْلَفَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ قَامَ مَعِي إِلَيْهِمْ ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ ).
وإسناده ضعيف ، فيه علتان :
أحدهما : الانقطاع بين أبي عبيدة وابن مسعود ، حيث إنه لم يسمع منه ، كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (955) .
الثانية : تدليس الأعمش وأبي إسحاق السبيعي .
الجزء الثاني : في قتل معاذ ومعوذ ابني عفراء لأبي جهل
فهذا ثابت في الصحيحين .
أخرجه البخاري في "صحيحه" (3962) ، ومسلم في "صحيحه" (1800) ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟. فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ ).
الجزء الثالث : في قول أبي جهل :" لقد ارتقيت مرتقىً صعبا يا رويعي الغنم "
أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" كما في "سيرة ابن هشام" (1/636):" قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:( قَالَ لِي: لَقَدْ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِي الْغَنَمِ قَالَ: ثمَّ احتززت رَأْسَهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آللَّه الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ- قَالَ: وَكَانَتْ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ ، ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ ) .
وإسناده ضعيف ، حيث إن الواسطة بين ابن إسحاق وعبد الله بن مسعود لم يسم ، فقال " وزعم رجال من بني مخزوم ".
الجزء الرابع : في قطع ابن مسعود رأس أبي جهل .
وهذا قد جاء فيه عدة أحاديث ، لا يخلو واحد منها من ضعف ، ومن ذلك :
ما أخرجه ابن ماجه في "سننه" (1391) ، والدارمي في "سننه" (1503) من طريق سلمة بن رجاء ، قال حَدَّثَتْنِي شَعْثَاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى:( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى يَوْمَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ رَكْعَتَيْنِ ).
وإسناده ضعيف ، فيه علتان :
الأولى : ضعف سلمة بن رجاء ، حيث قد ضعفه النسائي في "الضعفاء والمتروكين" (242) ، وقال ابن معين :" ليس بشيء " ، وقال أبو حاتم :" ما بحديثه بأس " ، وقال أبو زرعة :" صدوق " . كذا في "الجرح والتعديل" (4/160) .
الثانية : جهالة حال " شعثاء " ، ذكرها الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (3/1432) ، وقال :" امرأة تروي عن عَبد الله بن أبي أوفى ، روى عنها سلمة بن رجاء ". انتهى ، ولم يوثقها أحد ، ولذا قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" (8616) :" لا تعرف ". انتهى
ومنها ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (9/84) ، من طريق سُفْيَان ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ:( أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ ، فَقُلْتُ: هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ ، قَالَ: اللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؟ ، وَهَكَذَا كَانَتْ يَمِينُهُ ، فَقُلْتُ: وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، إِنَّ هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ ، فَقَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ).
وإسناده ضعيف ، لأجل الانقطاع بين أبي عبيدة وابن مسعود كما تقدم .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تقوية الرواية في ذلك ؛ قال ابن المنير رحمه الله عن هذا الحديث : " إِسْنَاده جيد.." . انتهى، من "البدر المنير" (9/106) .
وقال الحافظ ابن حجر : " إسناده حسن، واستغربه العقيلي . " انتهى، من "التلخيص الحبير" (6/2914) .
قال الرافعي رحمه الله : " وما روي من حَمْلِ رَأْسِ أبي جَهْلٍ فقد تَكَلَّمُوا في ثُبُوتِهِ .
وبتقدير الثُّبُوتِ، فإنَّهُ حُمِلَ في الوَقْعَةِ من مَوْضِع إلى موضع، ولم يُنْقَلْ من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، وكأنَّهُمْ أرادوا أَن يَنْظُرَ الناسُ إليه، فَيَتَحَقَّقُوا موْتَهُ. " انتهى، من "الشرح الكبير" (11/409) .
وأما الجزء الخامس والأخير ، وهو المتعلق بجر ابن مسعود رأس أبي جهل ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له :" أذن بأذن والرأس زيادة " : فهذا الجزء لا أصل له .
وإنما أورده الرازي في تفسيره " مفاتيح الغيب" (32/224) ، وذكره النيسابوري في تفسيره "غرائب الفرآن" (6/533) ، وعنه نقلها الصفوري في "نزهة المجالس" (2/69) ، وصدره بقوله :" يحكى أنه لما نزلت سورة الرحمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يقرأها على رؤساء قريش؟ فتثاقل القوم مخافة أذيتهم فقام ابن مسعود .. ثم ساق قصة قتل أبي جهل وفيها أنه قال :( ثُمَّ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا لَمْ يُطِقْهُ شَقَّ أُذُنَهُ ، وَجَعَلَ الْخَيْطَ فِيهِ ، وَجَعَلَ يَجُرُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَضْحَكُ ، وَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أُذُنٌ بأذن لكن الرأس هاهنا مَعَ الْأُذُنِ ).
وهذا الجزء ليس له أصل ، ولم نقف له على إسناد ، فلا يصح ، والله أعلم .
ثم إن حمل الرؤوس ليس من هدي المسلمين ، ولذا أنكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما جاءه بعض أصحابه برأس كافر .
فقد أخرج سعيد بن منصور (2649) ، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (34303) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، ( أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَأْسِ يَنَّاقِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا ، قَالَ:" فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ؟ لَا تُحْمَلْ إِلَيَّ رَأْسٌ ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ ).
وإسناده صحيح ، صحح إسناده ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/199) .
وقال ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (3/73) :" ومن كتاب ابن سحنون: قال سحنون لا يجوز حمل الرؤوس من بلد إلى بلد ولا حملها إلى الولاة ". انتهى
وقال ابن قدامة في "المغني" (9/326) :" يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ ، لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ، قَالَ:"كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ » ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد ". انتهى
وختاما : فإننا نهيب بإخواننا الدعاة وطلاب العلم وجميع المسلمين التحري في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، لأن الأمر دين ، وليس كل ما يذكر في بطون كتب السير والتاريخ صحيح ، خاصة أن منه ما قد يثير شبهة عند بعض المسلمين مع كونه غير ثابت .
والله أعلم .
تعليق