الجمعة 12 صفر 1446 - 16 اغسطس 2024
العربية

حكم السفر إلى البادية لأجل الإقامة الدائمة فيها

265678

تاريخ النشر : 29-01-2018

المشاهدات : 44123

السؤال

أود معرفة حكم الهجرة من المدينة إلى البادية بغرض الإستقرار الدائم بدون عذر شرعي ؛ لأني سمعت أن الهجرة بدون عذر للبادية من الحضر في ديار الإسلام من الكبائر.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

السفر إلى البادية للإقامة فيها بشكل دائم، هو تصرف مذموم شرعا.

فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا) رواه الترمذي (2256) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ "، ورواه أبو داود (2859 )، والنسائي (4309)، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2256).

قال الملا علي القاري رحمه الله تعالى:

" ( مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا )؛ أي جهل، قال تعالى: ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ).

وقال القاضي: جفا الرجل إذا غلظ قلبه وقسا، ولم يرق لبر وصلة رحم، وهو الغالب على سكان البوادي لبعدهم عن أهل العلم وقلة اختلاطهم بالناس " انتهى، من "مرقاة المفاتيح" (7 / 279).

وهذا الحديث يدل على كراهة الإقامة بالبادية وملازمتها.

قال أبو بكر الأثرم رحمه الله تعالى:

" وأما الكراهة فإنها لمن لزم البادية ، وترك الأمصار والجماعات " انتهى، من "ناسخ الحديث ومنسوخه" (ص 266).

وعلة هذا أمران:

الأمر الأول: ما أشار إليه الحديث؛ وهو أن البداوة تولد في صاحبها الجفاء، وتبعده عن أسباب كمال الدين، من العلم النافع والصحبة الصالحة المذكرة بالخير، ونحو هذا من السبل المعينة على تحصيل الإيمان وتقويته والتي تتوفر في حواضر المسلمين وتخلو منها البادية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم ، مع ما ذكرناه من الفضل فيهم، وعدم العبرة بالنسب والمكان = مبني على أصل؛ وذلك: أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين، ورقة القلوب، ما لا يقتضيه سكنى البادية ... " انتهى، من "اقتضاء الصراط المستقيم" (1 / 415).

الأمر الثاني: هو أن التبدي يؤدي إلى تخلف المسلم عن كثير من الجماعات والجمع، فيكون فاعل هذا عرضة لتسلط الشيطان عليه.

عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قُلْتُ: فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ ) قَالَ السَّائِبُ – أحد رواة هذا الحديث-: يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ : الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ.

رواه أبو داود (547)، والنسائي (847)، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (547).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : ( أَلاَ هَلْ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ مِنَ الْغَنَمِ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ ، فَيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْكَلأُ ، فَيَرْتَفِعَ ، ثُمَّ تَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَجِيءُ وَلاَ يَشْهَدُهَا ، وَتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا ، وَتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلاَ يَشْهَدُهَا ، حَتَّى يُطْبَعَ عَلَى قَلْبِه ) . رواه ابن ماجة (1127) ، وحسنه الألباني .

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" وقد نص أحمد على كراهة المقام بقرية لا يقام فيها الجمعة ، وإن أقيمت فيها الجماعة.

وقد يُحمل ذلك على من كان بمصر جامع يجمع فيه، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه. وفي كلامه إيماء إليه أيضا.

وقد يُحمل كلامه على كراهة التنزيه دون التحريم.

فأما المقام بقرية لا جمعة فيها ولا جماعة : فمكروه " انتهى، من "فتح الباري" (1 / 115).

فالحاصل؛ أن هجر المدن والسكن بالبداية هو أمر منهي عنه، وقد يصل إلى التحريم، إن كان يغلب على الظن أنه سيؤدي إلى ضرر في دين الشخص ، أو تفويت واجب شرعي عليه ، أو ضياع شيء من مصالح دنياه التي أمره الشرع بالحفاظ عليها.

ثانيا:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: ( اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ.

فَسَكَتَ النَّاسُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَسْأَلُونِي عَنْهُنَّ؟ الشِّرْكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكَلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكَلُ الرِّبَا، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5636)، وقوّاه الألباني بمجموع طرقه وشواهده في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (5 / 293).

والمقصود بـ " التَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ "، هو أن يهاجر المسلم هجرة شرعية إلى حاضرة من حواضر المسلمين يقام فيها شرع الله تعالى، ثم ينقض هجرته هذه ويرجع إلى البداوة.

وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:

" أجمعت الأمة على تحريم ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه ، وأن ارتداد المهاجر -أعرابيا- من الكبائر " انتهى، من "إكمال المعلم" (6 / 273).

والأقرب أن الذي ورد الوعيد فيه واعتباره من الكبائر : هو رجوع أحد ممن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته ، وأن ذلك كان محرما عليهم ، إلا من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك .

قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:

" ( التعرب بعد الهجرة ): هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا.

وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه ، من غير عذر : يعدونه كالمرتد " انتهى، من "النهاية في غريب الحديث" (3 / 202).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" – التعرب- أي السكنى مع الأعراب ، وهو أن ينتقل المهاجر من البلد التي هاجر منها ، فيسكن البدو ، فيرجع بعد هجرته أعرابيا .

وكان إذ ذاك محرما إلا إن أذن له الشارع في ذلك " انتهى، من "فتح الباري" (13 / 41).

فالحاصل؛ أن هذا الحديث في حق المهاجر إلى الله تعالى، فإنه يحرم عليه أن يترك البلد الذي هاجر إليه ويسكن البادية .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب