الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

حكم من ينكر وجود الناسخ والمنسوخ في نصوص الوحي

268766

تاريخ النشر : 26-09-2017

المشاهدات : 46039

السؤال

هل الناسخ والمنسوخ الذي بمعنى (رفع الحكم الشرعي المتقدم بخطاب متأخر) عقيدة لابد من الإيمان بها ، أم أن المسألة خلافية ، وبذلك لا يكفر منكرها ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

ثبت بالأدلة القاطعة أن النسخ وقع في الشرائع ، ومن أوضح النصوص دلالة على ذلك:

قول الله تعالى:

( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) البقرة (106).

وقول الله تعالى:

( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) النحل (101 – 102).

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:

" وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم أخرى، ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ): يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغير من أحكامه، ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ) يقول: قال المشركون بالله، المكذبو رسوله، لرسوله: (إِنَّمَا أَنْتَ) يا محمد (مُفْتَرٍ)، أي: مكذب، تتخرص بتقوّل الباطل على الله .

يقول الله تعالى: بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد: إنما أنت مفتر. جهال بأنّ الذي تأتيهم به من عند الله، ناسخه ومنسوخه، لا يعلمون حقيقة صحته.

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال أهل التأويل... " انتهى. "تفسير الطبري" (14 / 362).

وقال الله تعالى:

( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) يونس (15 – 16).

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ) الآية.

أمر الله تعالى: في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: إنه ما يكون له أن يبدل شيئا من القرآن من تلقاء نفسه .

ويفهم من قوله: ( مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ) أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء. وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله: ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ) الآية، وقوله: ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) الآية، وقوله: ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) " انتهى. "أضواء البيان" (2 / 563).

وقد ثبت وقوع النسخ في أمور عدة؛ ومن ذلك:

قول الله تعالى:

( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ، الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال (65 - 66).

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:

" وهذه الآية، أعني قوله: ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ )، وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن معناها الأمر. يدلّ على ذلك قوله: ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ) فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل. ولو كان ثبوت العشرة منهم ، للمئة من عدوهم ، كان غير فرض عليهم قبل التخفيف، وكان ندبًا = لم يكن للتخفيف وجه؛ لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوت للعشرة من العدو، وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدّما، لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد.

وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله: ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا )، ناسخ لحكم قوله: ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ... " انتهى. "تفسير الطبري" (11 / 268 - 269).

وكقوله تعالى:

( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المجادلة (12 – 13).

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) ...

ثم قال: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، ( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) فنسخ وجوب ذلك عنهم " انتهى. "تفسير ابن كثير" (8 / 49 - 50).

وكما روى الإمام مسلم (977): عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بريدة بْن الحصيب، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا. وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ. وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا ).

ثانيا :

القول بجواز النسخ عقلا ، ووقوعه شرعا ، هو قول عامة الأمم ، ولم يخالف في هذا إلا طوائف من اليهود ، ونسب إلى أبي مسلم الأصفهاني المعتزلي (254-322ه) .

وقيل : إن خلاف أبي مسلم الأصفهاني هو خلاف لفظي ، وليس حقيقيا .

قال القاضى أبو بكر ابن العربى :

 "  لقد أجمع المسلمون على جواز النسخ ووقوعه فعلا ؛ خلافا لليهود الذين أنكروه ...

والآيات القرآنية فى جواز النسخ عديدة " انتهى، من "الناسخ والمنسوخ" لابن العربى (ص 3 ).

وقال الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (3/74) :

"لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلاً وشرعاً ، ولا في وقوعه فعلاً .

ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني - فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد" انتهى .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/379) :

"والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكم البالغة، وكلهم قال بوقوعه.

وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله هذا ضعيف مردود مرذول. وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ" انتهى .

وقال الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (1/432) :

"وقد اتفق علماء الإسلام على جواز النسخ ، ووقوعه .

ولم يخالف في ذلك إلا أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر ، فقيل : إن خلافه لفظي" انتهى .

وقال الألوسي في "روح المعاني" (1/352) :

"واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ، ووقوعه .

وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه ، وقالوا : يمتنع عقلا .

وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه ، فقال : إنه وإن جاز عقلا ؛ لكنه لم يقع " .

وينظر أيضا : "الإحكام" للآمدي (3/127) .

وقال أبو جعفر النحاس رحمه الله تعالى:

" فتكلم العلماء من الصحابة والتابعين في الناسخ والمنسوخ، ثم اختلف المتأخرون فيه، فمنهم من جرى على سنن المتقدمين ، فوُفِّق.

ومنهم من خالف ذلك ، فاجتنب.

فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله جلّ وعز ناسخ ولا منسوخ، وكابر العيان واتبع غير سبيل المؤمنين " انتهى. "الناسخ والمنسوخ" (1 / 400).

وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

" انعقد إجماع العلماء على هذا إلا أنه قد شذ من لا يلتفت إليه ...".انتهى. "نواسخ القرآن" (1 / 119).

وإذا تبين أن المسألة بهذا الوضوح ، من حيث انعقاد اجماع العلماء عليها إلا من شذ ، ومن حيث دلالة الكتاب والسنة عليها ، فإنه لا يجوز لمسلم أن يخالف في هذا ، وأن يذهب إلى إنكار النسخ وعدم وقوعه ، فإن هذا اتباع لغير سبيل المؤمنين ، فيشمله الوعيد الوارد في قوله تعالى :

قال الله تعالى:

( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء (115).

ثالثا:

قد ظهر في هذا العصر عدد من الكتاب ينفون وقوع النسخ، وأوّلوا النصوص الدالة على النسخ، وشبهتم التي أظهروها في صنيعهم هذا : أن إثبات النسخ يلزم منه نسبة بعض صفات النقص إلى الله تعالى ، كما أن فيه إبطالا للقرآن على زعمهم، ولذا نفوا وقوع النسخ بحجة التنزيه لله تعالى والدفاع عن كتابه.

وهذا القول هو من جنس مقالات من حرف صفات الله تعالى بحجة التنزيه لله تعالى عن صفات النقص .

وهذه المقالات التي فيها رد لنصوص الوحي ، وخروج عما أجمع عليه أهل العلم ، وتلقته الأمة بالقبول = هي في حقيقتها كفر ، لخروجها عن سبيل المؤمنين .

إلا أنه لا يحكم على القائلين به بالكفر لما يظهرونه من التأويل والمقاصد التي تنفي عنهم صفة تعمد المشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة سبيل المؤمنين.

فبسبب ما عند هؤلاء من الجهل والشبهة والتأويل : لا يحكم عليهم بالكفر .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن يكون  الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم، أنا لو وافقتكم كنت كافراً؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.

وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له" انتهى، من "الرد على البكري" (383 - 385).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" أن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء به الكتاب والسنة ، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال ، وأن ما قاله كله حق ، والتزموا ذلك : لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية = فهؤلاء قد دلّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين ، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين .

وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم أئمة السلف على ذلك " انتهى. من "الإرشاد" ضمن "المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي" (12 / 558).

ونفاة النسخ هؤلاء ، وإن لم يحكم عليهم بالكفر : إلا أنهم لا يقرون على قولهم ، بل يجب التحذير منهم ، وبيان بطلان قولهم نصحية للإسلام والمسلمين.

وراجع للأهمية الفتوى رقم (192564) ، (228722) .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب