الحمد لله.
أولا:
دراسة الطب وغيره من العلوم التي تحتاجها الأمة كالحساب والهندسة فرض كفاية؛ إذ بها قوام أبدانهم ومعاشيه، وبفقدها يحصل للناس ضرر عظيم في ذلك.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: " بيان العلم الذي هو فرض كفاية:
اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده : تنقسم إلى شرعية ، وغير شرعية. وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة.
فالعلوم التي ليست بشرعية : تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا ، كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية : فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا ، كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها: حرِج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم، وحرِجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله.
وأما ما يعد فضيلة لا فريضة، فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.
وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات، وعلم الشعبذة والتلبيسات.
وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سُخف فيها، وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه" انتهى من إحياء علوم الدين (1/ 34).
وفي الموسوعة الفقهية (13/ 5): " تعلم العلم تعتريه الأحكام الآتية: قد يكون التعلم فرض عين وهو تعلم ما لا بد منه للمسلم، لإقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى، أو معاشرة عباده. فقد فرض على كل مكلف ومكلفة - بعد تعلمه ما تصح به عقيدته من أصول الدين - تعلمُ ما تصح به العبادات والمعاملات ، من الوضوء والغسل والصلاة والصوم، وأحكام الزكاة، والحج لمن وجب عليه، وإخلاص النية في العبادات لله. ويجب تعلم أحكام البيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات، وكذا أهل الحرف، وكل من اشتغل بشيء يفرض عليه تعلم حكمه، ليمتنع عن الحرام فيه.
وقد يكون التعلم فرض كفاية، وهو تعلم كل علم لا يستغنى عنه في قيام أمور الدنيا، كالطب والحساب والنحو واللغة والكلام والقراءات وأسانيد الحديث ونحو ذلك..." انتهى.
ثانيا:
فرض الكافية هل يلزم بالشروع فيه فيصير فرض عين؟
في ذلك خلاف بين الأصوليين.
قال الدكتور محمد مصطفى الزحيلي: " فرض الكفاية هل يلزم بالشروع؟
التوضيح: فرض الكفاية هو ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً من مجموع المكلفين، وإذا
فعله البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعاً، فإذا شرع فيه إنسان فهل يتعين عليه بالشروع؛ أي يصير فرض عين، أي مثلَه في حرمة القطع، ووجوب الإتمام، أو لا يتعين ؟
فيه خلاف، رجح في (المطلب) الأول، ورجح العلامة هبة الله بن عبد الرحيم البارزي في (التمييز) الثاني، قال في (الخادم) :
"ولم يرجح الرافعي والنووي شيئاً، لأنها عندهما من القواعد التي لا يطلق فيها الترجيح، لاختلاف الترجيح في فروعها ".
التطبيقات:
1 - صلاة الجنازة: الأصح تعيينها بالشروع، لما في الإعراض عنها من هتك حرمة الميت.
2 - الجهاد، لا خلاف أنه يتعين بالشروع، نعم، جرى خلاف في صورة منه، وهي ما إذا بلغه رجوع من يتوقف غزوه على إذنه، والأصح أنه تجب المصابرة، ولا يجوز الرجوع.
3 - إذا شرع في إنقاذ غريق، ثم حضر آخر لإنقاذه، جاز قطعه ؛ قطعاً.
المستثنى:
العلم: فمن اشتغل به، وحصل منه طرفاً، وأنس منه الأهلية، هل يجوز له تركه، أو يجب عليه الاستمرار؟
وجهان، الأصح الأول، ويجوز تركه، ووجهه بأن كل مسألة مستقلة برأسها، منقطعة عن غيرها" انتهى من "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة (2/ 952).
وينظر: البحر المحيط للزركشي (1/ 325)، القواعد والفوائد الأصولية للبعلي، ص255
والراجح أن فرض الكفاية لا يصير فرض عين إلا في مسائل معينة، كالجهاد، لأنه لو صار كذلك، لتعيّنت الحرف على أصحابها، ولأثموا بتركها.
قال الفقيه عبد الله بن سليمان الجَرْهَزي اليمني الزبيدي (1201 هـ): " المعتمد ما في (التحفة) من أنه يحرم قطع فرض الكفاية الذي هو جهاد، أو نسك، أو صلاة جنازة، كفرض العين.
وجزم جمع بتحريمه مطلقاً إلا الاشتغال بالعلم، لأن كل مسألة مستقلة بنفسها، وصلاة الجماعة لأنها وقعت صفة تابعة.
وهذا رأي ضعيف، وإن أطال التاج السبكي في الانتصار له، وإلا لزم حرمة قطع الحِرَف والصنائع، ولا قائل به" انتهى من "القواعد الفقهية وتطبيقاتها" (2/954).
وبهذا يتبين أنه لم يقل أحد من العلماء بتأثيم أهل الحرف ، إذا تركوا أعمالهم .
وعليه: فلو ترك إنسان دراسة الطب بعد شروعه فيها، فإنه لا يأثم، وهكذا في بقية العلوم والصناعات ، التي تعلمها ، أو القيام بها : فرض كفاية.
والله أعلم.
تعليق